في الأسبوع الماضي أعلنت كوريا الشمالية أنها تملك السلاح النووي وهي قادرة على استخدامه وإيصاله إلى مناطق واسعة في دائرتها الجغرافية. وفي الوقت نفسه أعلنت إيران أنها لا تملك السلاح النووي وأن برنامجها مراقب وتريده لاغراض سلمية "إنتاج الطاقة الكهربائية". وجددت طهران التزامها المبدئي بعدم انتاج هذا السلاح. وفي الأسبوع نفسه نشرت "نيويورك تايمز" دراسة عن النادي النووي اتهمت فيها الولايات المتحدة بازدواجية المعايير، وانتقدت تصرفاتها التي تسمح لدولة بانتاج السلاح النووي وتحرم هذا الحق على دولة أخرى. وبدلا من أن تعطي الصحيفة الأميركية "إسرائيل" كمثال على ازدواجية هذه المعايير تحدثت عن باكستان وطالبت واشنطن بأن تعامل إسلام آباد معاملتها لطهران.
موقف الصحيفة الأميركية الموالي لـ "إسرائيل" ليس جديدا. الجديد هو ربط البرنامج النووي السلمي الإيراني بالبرنامج النووي الباكستاني مع أن المنطق يقول إن برنامج باكستان هو نتاج أو رد فعل على برنامج الهند النووي. وتجريد باكستان منه يرتبط إلى حد ما بتجريد الهند من هذا البرنامج.
حشر إيران في مسألة باكستان وابعاد ملف "إسرائيل" عن طاولة البحث والنقاش يكشفان عن جوهر السياسة الأميركية المتعلق بهذا الجانب الخطير والحساس. والجوهر يعني أن دور باكستان سيأتي لاحقا بعد الانتهاء من ملف إيران. وهذا هو معنى المعايير المزدوجة.
التركيز على طهران وتسخين ملفها دوليا بدأ في اليوم التالي لبدء الولاية الثانية لجورج بوش. الملف قديم إلا أن واشنطن قررت كما يبدو اخراجه من الدرج ووضعه على الطاولة وتسليط الأضواء عليه وتحويله إلى فزاعة لتخويف دول الجوار وتشكيل قوة ضغط على أوروبا ومصادرته منها ونقله إلى مجلس الأمن.
وحتى تسري اللعبة الأميركية "الاسرائيلية" تحول الملف الإيراني إلى مهمة يومية والشغل الشاغل للوزراء والسفراء وبعض السياسيين والصحافيين والمثقفين. فهذا الملف المختلق يذكر بالسياسة نفسها التي اتبعتها واشنطن حين قررت احتلال العراق. فقبل أن ترتكب تلك الحرب لجأت ايضا إلى تسخين الملف وتثوير الرأي العام وتخويف دول الجوار من "سلاح الدمار الشامل". وحين أكد العراق مرارا أنه لا يملك ذاك السلاح اتهم بالكذب. وحين ذهبت فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة للبحث عن السلاح المذكور ولم تجده اتهمت ايضا بالتقصير وعدم الدقة. وأعلنت الحرب وجرى ما جرى ولم تعتذر أميركا حتى الان عن جريمتها على رغم اعترافها بعدم وجود أسلحة الدمار الشامل.
يبدو أن اللعبة نفسها بدأت الولايات المتحدة بإعادة انتاجها. فالسيناريو نفسه الذي اتبعته ضد العراق أخذت بممارسته ضد إيران. الكلام نفسه. العناوين نفسها. التكتيكات نفسها... وكأن أميركا فقدت المخيلة.
الجديد في الموضوع هو دخول كوريا الشمالية على خط التوتر العالي وكشفها عن امتلاكها لهذا السلاح الخطير. والجديد ايضا ردة فعل وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس على الموضوع. فالرد يثير علامات استفهام ويشير في الآن إلى السياق العام الذي قررت إدارة البيت الأبيض السير فيه خلال الشهور المقبلة. ردة فعل رايس مثيرة للاشمئزاز ولكنها تعطي فكرة عن التفكير الأميركي، فهي قالت: "ان إيران اخطر من كوريا الشمالية". كيف تكون دولة لا تملك السلاح وإذا ارادت امتلاكه تحتاج إلى أكثر من عشر سنوات لتصنيعه "هذا إذا سمح لها" اخطر من دولة أعلنت عن امتلاكها له وقدرتها على رميه على مسافات بعيدة؟
الجواب يمكن حصره في نقطتين: الأولى أن كوريا الشمالية ليست دولة مسلمة كإيران أو باكستان. والثانية أن "إسرائيل" بعيدة جغرافيا عن كوريا وبالتالي فإنها ليست معنية مباشرة بالموضوع كما هو أمر باكستان وإيران.
المسألة إذا تتعلق بالإسلام وفلسطين، وهذا كما يبدو هو سلاح الدمار الشامل الممنوع دوليا. فحين يجتمع الاسلام بفلسطين يتحول الخبر وتبدأ قراءة أميركا للعناوين مغايرة لكل الكلام الذي تكرره عن المخاطر على السلام العالمي. فالسلام العالمي ليس مهما بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو على الأقل ليس له الأولوية. فالأولوية هي سلامة "إسرائيل" وأمنها ولو كلف الأمر واشنطن خوض "حرب خليج رابعة" من أجلها وتحت مسميات مختلفة واكاذيب مختلقة.
إعلان كوريا الشمالية في الأسبوع الماضي كشف فعلا حقيقة تلك المعايير المزدوجة. فالإعلان لم يغير الاتجاه إذ استمرت واشنطن في تسخين الملف الإيراني بصفته الاخطر على العالم ويهدد أمن أوروبا. إنها كذبة، ولكنها كذبة كبيرة ستكلف المنطقة الكثير من الخسائر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 894 - الثلثاء 15 فبراير 2005م الموافق 06 محرم 1426هـ