في البحرين هناك 1122 مأتما وحسينية للرجال والنساء، مسجلة رسميا لدى إدارة الأوقاف، وهناك أكثر من ذلك العدد غير مسجل. كل هذه المآتم والحسينيات تحيي ذكرى واقعة كربلاء، في العشر الأوائل من شهر محرم الحرام. وفي اليوم الرابع من كل عام يخصص الحديث عن سيرة سفير الحسين "ع" إلى العراق، مسلم بن عقيل، إذ تذكر الرواية المشهورة ما حدث في المواجهة الحامية بينه وبين مفرزة من الجند الأموي، فطلب قائدها من ابن زياد أن يمده بالخيل والرجال، فرد عليه ساخرا من عجزه وجنوده عن القضاء على فرد واحد محاصر بين أزقة الكوفة، فرد عليه غاضبا: "ويحك، أتحسب أنك أرسلتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرموق من جرامقة الحيرة؟ انما أرسلتني إلى سيف من سيوف محمد".
البقالون كلنا نعرفهم، أما كلمة "جرموق" فبحثت عنها قبل يومين في "مجمع البحرين" للطريحي، فاكتشفت ان الجرموق "خف قصير واسع يلبس فوق الخف"، "الجزء الأول، صفحة 365". أي انه نعال فوق نعال، أو حذاء يلبس فوق حذاء!
على أن بعض الرواة يذكرونها هكذا: "...أو جرمقاني من جرامقة أهل الحيرة"، وهي لا تختلف كثيرا من حيث المضمون، إلا بمقدار الفرق بين الحذاء وصانع الحذاء! وفي الحالين تأتي هذه الشهادة دامغة من أحد قواد الجيش الأموي نفسه!
رواية تاريخية متواترة، تضع الناس مواضعها وتنزلها منازلها، فقائد المفرزة الأموية ومن دون أن يدري رسم للأجيال القادمة صورة دقيقة للمعسكرين: فهذا المقاتل الوحيد المحاصر يقابله جنود لا يزيد وزنهم في ميزان الحق والقيم عن قيمة النعل والأحذية.
وعبر الزمان مازال الجرامقة والبقالون يتوالدون كما يتوالد الأبطال والصالحون. كل يسير على نفسيته ومنهاجه، فالذين قتلوا الحسين كانوا يصلون، ولكن كانت نفسياتهم مريضة، ومن هنا تورطوا في أكبر جريمة وقعت عبر تاريخنا الإسلامي على الإطلاق: الإجهاز على ذرية نبى الأمة وسبي بناته وترويع أطفاله وسوقهم على ظهور الجمال من الكوفة إلى دمشق، عبر الفيافي والصحاري القاحلة. المرض الأكبر هو الحقد، الذي كان يدفع جرموقا سابقا للكتابة قبل خمسة وعشرين عاما بعد كل تفجير تقوم بها شلة منافقة في شوارع طهران فتزهق أرواح عشرات الأبرياء كل يوم: "اللهم لا شماتة... والدم يجر إلى الدم"، ويدفع جرامقة آخرين في الفضائيات وغير الفضائيات، للدفاع عما يجري من سفك يومي لدماء عشرات العراقيين، باسم الاسلام والجهاد... قد بدت البغضاء في كلماتهم، وباضت الأحقاد في كتاباتهم، كتابة تنزف من بئر غل عميق. وهو الذي يدفع جرموقا نموذجيا آخر للكتابة عن أمنيته السامية بأن تقوم أميركا بتحطيم القدرات النووية والعسكرية الايرانية، ويعبر عن وقوفه مع أميركا في هذا الهدف السامي! ونسي أنه لا يقف مع أميركا وحدها بل يقف قبل ذلك مع حليف العرب الجديد "أرييل شارون"، الذي يكافئه العرب اليوم بتوقيع الاتفاقات التجارية "الحرة" وعودة السفراء، والهجوم الإعلامي تمهيدا للقضاء على أخطر مصدر يهدد الاستقرار في العالم: الهلال المزعوم!
وإذا كان الشاعر القديم قد قال:
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
فإن المأساة تتضاعف عندما تجتمع الحماقة مع الحقد التاريخي والروح الطائفية التي لا ترى ما هو أبعد من شسع نعالها. من النعل جاءت وإلى النعل تعود، في شهادة تعزز مقولة قائد مفرزة الجند الأموي!
عندما تسأل عنهم تحزن ويرق قلبك، يعيشون كآبة دائمة، يغلقون عليهم الأبواب فلايزورون ولا يزارون، فإذا اتصل بهم صديق لم يجيبوه، وإذا جاءهم بكتاب أو أوراق من "قراطيس" لا يفتحون له الباب، فيضطر إلى دفعها من تحت شق الباب. يعتقدون أن العالم كله مختزل في إطار الخف والأحذية، هذا هو عالمهم التحتي لا يفارقونه.
محمد حسنين هيكل رد على مسوقي نظريات الفتنة وناشري الفتن، وعجب ممن يتخيل وجود هلال مزعوم، ويعمى عن رؤية نجم داوود التي تطبق على أنفاس الأمة الاسلامية قاطبة. وأحسن صنعا حين عبر عن تمنياته بأن يبلغ هؤلاء القاصرون سن الرشد، ليفهموا ما يدور حولهم من مؤامرات حقيقية، لا أن يعيشوا الخيال والريبة والتوجس الدائم، يحسبون كل صيحة عليهم... والمرء وما يختار: أن يعيش حرا أو يبقى جرموقا أسير الهواجس والأحقاد والظنون
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 893 - الإثنين 14 فبراير 2005م الموافق 05 محرم 1426هـ