استراتيجية الخروج من مأزق العراق شيء والانسحاب العسكري الأميركي من العراق والمنطقة مسألة أخرى. وهذا الخلط بين المستويين عطل كثيرا إمكانات التفكير في تحديد الأهداف الحقيقية لسياسة واشنطن في منطقة "الشرق الأوسط". فالخلط بين معنى الخروج ومبنى الانسحاب اعطى إشارات خاطئة شوشت رؤية بعض الأنظمة وخصوصا تلك الدول العربية "والإسلامية" المستهدفة في مخطط التقويض السياسي.
بدأت استراتيجية الخروج من مأزق العراق عمليا في يونيو/ حزيران الماضي. ففي تلك الفترة أخذت الولايات المتحدة سلسلة خطوات وإجراءات ميدانية قضت بإعادة انتشار قوات الاحتلال وموضعتها في قواعد عسكرية ومهابط طيران. وكان الهدف من تلك الترتيبات تخفيف الخسائر البشرية إلى الحد المقبول لدى الرأي العام الأميركي المفرط في حساسيته في هذا الموضوع.
ونجحت الإدارة التي كانت تستعد للانتخابات الرئاسية في تقليل الخسائر قياسا بالفترة السابقة مستفيدة من ظهور تلك المجموعات المسلحة "المجهولة العنوان والاسم والأهداف" التي ارتكبت حماقات شوشت على المقاومة العراقية وشوهت سمعتها في الميادين الأوروبية والأميركية وعطلت إلى حد معين صدقيتها، وهزت إلى حد كبير تعاطف الشارع العربي معها.
قرار تجميع قوات الاحتلال في مجمعات وثكنات احبط إمكانات تطور المقاومة العراقية ومنع عليها احتمال نموها من مجموعات عسكرية تقوم بعمليات محترفة ضد الاحتلال إلى مقاومة شعبية عامة تلاقي الدعم العربي والتضامن العالمي.
استراتيجية الخروج من مأزق العراق بدأت إذا منذ يونيو ،2004 إلا أن الخروج لا يعني بالضرورة الانسحاب العسكري الكامل من المنطقة وعدم تكرار التورط العسكري في مناطق أخرى أو ضد دول عربية وإسلامية تجد فيها واشنطن مراكز ممانعة للسياسية الأميركية.
الخلط بين المستويين يمنع القراءة الصحيحة لتلك التصريحات المضطربة والمتعارضة التي تصدر عن مراكز القرار في البيت الأبيض. فتلك التصريحات التي تقول الشيء وعكسه وتعتمد على معلومات كاذبة واتهامات باطلة يقصد منها تعطيل الرؤية ومنع التقاط الخيط المشترك الذي يجمع بين فقرات متناثرة لمجموعة من الأفكار المبعثرة. فالسياسي أحيانا يتحدث كالجنرال. فهو يطرح الأفكار ولا يتحدث عن الأهداف والخطط الموضوعة لتحقيقها.
وهذا بالضبط ما يمكن ملاحظته في السياسة الأميركية. فالإدارة تكثر الكلام عن الشفافية والإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان والمساعدة على التطوير والتحديث ولكنها عمليا تخطط لتدمير البنى التحتية التي تشكل أساس قيام البنى الفوقية. وحين تضرب الطائرات والصواريخ ما يسمى بالبنى التحتية "كما حصل في العراق" فإن الدولة ستتقوض بطبيعة الحال وتدب الفوضى الأمنية وتنهار المؤسسات ويتلاشى الاستقرار وتنفك الوحدة الوطنية وتظهر تلك العصبيات والاتجاهات المتعصبة. فالبنى الفوقية "برلمان، دستور، نقابات، جمعيات، مؤسسات أهلية، منظمات حقوق إنسان... إلخ" لا يمكن أن تنهض إذا كانت محطات الكهرباء والماء والجسور والمستشفيات والمدارس محطمة ومهشمة وإذا كان أمن المواطن مهددا بالموت المجاني وتفخيخ السيارات وتمزيق النسيج الاجتماعي.
نموذج الحرب الأميركية على العراق "وأفغانستان" ليس بالضرورة هو الوحيد الذي تملكه الولايات المتحدة. فهناك الكثير من الوسائل والأدوات المختلفة التي تحدث عنها مرارا بوش وتشيني ورامسفيلد وأحيانا رايس. فالحروب ليست برية "احتلال مباشر" دائما. فهناك حروب حديثة ومعاصرة وهي الضرب العسكري عن بعد "كما حصل ضد دولة صربيا" لمدة أسابيع متواصلة تترافق معها سلسلة تدابير وإجراءات دولية "حجز أموال، منع التبادل التجاري، حصار خارجي" وأخيرا ترك الوضع الداخلي يتداعى وينهار آليا. هذا الاحتمال مرجح وليس بالضرورة أن يحصل ولكن استبعاده يعتبر من الأخطاء الاستراتيجية التي سبق ووقع فيها صدام حسين في العام 1990 - .1991 وكذلك ارتكبها سلوبودان ميلوسوفيتش حين أعتقد أن أميركا لا تستطيع اجتياح صربيا بريا "من أقوى جيوش أوروبا الشرقية" ولكنها نجحت في اجتياحها جويا بالطائرات والقصف الصاروخي عن بعد.
احتمالات التقويض كثيرة ومنها الوسائل العسكرية. والمراهنة على المأزق الأميركي في العراق ليست دقيقة. وإدارة المجانين والاشرار في واشنطن تعتبر أنها تخوض حربها للدفاع عن مستقبل الولايات المتحدة وموقعها الريادي المهدد بالسقوط الدولي في العقدين المقبلين.
عدم استبعاد الحل العسكري مسألة مهمة في قراءة الاستراتيجية الأميركية وهي تعادل في أهميتها الاستعداد للمواجهة وعدم الخوف من المعركة وخصوصا إذا كانت مفتعلة ومفروضة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 893 - الإثنين 14 فبراير 2005م الموافق 05 محرم 1426هـ