التقويض هو المحرك لآليات الاستراتيجية الأميركية المقبلة في منطقة "الشرق الأوسط" إلا أن سمته العامة سياسية في الأمد المنظور. فالتقويض السياسي هو الأقوى ويشكل رافعة للتقويض العسكري.
استبعاد الخيار العسكري ليس سياسة حكيمة. فالاحتمال وارد في كل لحظة. ويرجح أن تعتمده واشنطن في حال اكتشفت أن هناك صعوبات ميدانية تعرقل المسار العام لاستراتيجيتها السياسية. فالتقويض السياسي يقوم على فكرة خلخلة الاستقرار الأمني وزعزعة المنظومة الاقليمية للدول العربية وفك ارتباط التحالفات الثنائية "سورية وإيران" والثلاثية "سورية، مصر، والسعودية". فهذه المنظومات الاقليمية مستهدفة إلى جانب تعطيل دور جامعة الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي وربما منظمة "أوبك" النفطية.
إلا أن التقويض السياسي يحتاج إلى وقت أيضا وربما يتطلب فترة أكثر من 4 سنوات هي مدة ولاية بوش الثانية. وبسبب ضيق الوقت فقد تلجأ إدارة البيت الأبيض إلى خيارات أخرى تسرع عمليات التعديل وتعطي مفاعيل ميدانية على الأرض تسمح بإعادة تشكيل خريطة طريق دول "الشرق الأوسط".
الخيار العسكري ليس مستبعدا وأيضا ليس بالضرورة أن تلجأ إليه الولايات المتحدة... ولكنه - وهذا هو المهم - يبقى من الوسائل المطروحة في برنامج التقويض الأميركي. وكثيرا ما أشار إلى هذا الاحتمال الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني وكذلك وزير دفاعه ووزيرة خارجيته. فهؤلاء "الكبار الأربعة" ذكروا مرارا احتمال استخدام الحل العسكري مع سورية وإيران في حال فشلت الوسائل الأخرى أو استنفدت الاتصالات الدبلوماسية أغراضها. وحين يجمع "الاربعة الكبار" على عدم استبعاد الاسلوب العسكري في حال فشلت الاساليب الأخرى فمعنى ذلك أن سيناريو التقويض الحربي ليس مستبعدا على الاطلاق.
خيار التقويض العسكري ربما ليس واردا الآن "اليوم"، ولكنه من الحلول المطروحة على برنامج عمل الإدارة الأميركية في المستقبل "غدا". والتحوط لكل الاحتمالات هي من أبسط القراءات.
إذا كان خيار التقويض العسكري ليس بعيدا عن الرؤية فكيف يمكن تصور حصوله؟ وما المبررات التي ستخترعها واشنطن لتغطية حربها المحتملة؟
هناك الكثير من الأوراق "الملفات" التي نجحت إدارة البيت الأبيض في تجميعها خلال فترة الانتخابات الرئاسية وأبرزها تلك القرارات الدولية المتعلقة بالسودان "العمق الاستراتيجي لمصر" ولبنان "استهداف دور سورية وموقعها" إضافة إلى تسخين الملف الإيراني ووضعه تحت المراقبة اليومية. وقراءة سريعة لتصريحات المسئولين الاميركيين "الاربعة الكبار" تكشف عن جوانب ليست بريئة في التركيز الدائم على سورية وإيران وحزب الله اللبناني واتهام الأطراف الثلاثة بزعزعة استقرار المنطقة وتهديد أمن "إسرائيل" والمشاغبة على مشروع السلام في "الشرق الأوسط" ودعم المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي ودعم المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
تلك التصريحات بكل بساطة تريد نقل المسئولية عن الولايات المتحدة وتحميلها إلى أطراف إقليمية مركزية "عربية وإسلامية" حتى تعطي لنفسها المبررات لممارسة الضغوط تمهيدا لفتح جبهات عسكرية جديدة.
هناك الكثير من التصريحات التي يطلقها بعض المتسرعين في قراءة تعقيدات الاستراتيجية الأميركية تتحدث عن مأزق الاحتلال في العراق والتورط والصعوبات التي تلاقيها واشنطن في "المستنقع الفيتنامي". وهذه القراءة نصف صحيحة. فالنصف الآخر مغيب أو مسكوت عنه؛ لأنه لا يتناول تلك الحقائق الميدانية "التاريخية" التي تقول إن الولايات المتحدة استمرت أكثر من 12 عاما متورطة في غابات فيتنام في وقت تكاتف العالم كله ضدها ولم تخرج إلا بعد أن ارتكبت حماقات وانقلابات وجرائم ضد الإنسانية في دائرة جنوب شرق آسيا.
الكلام عن صعوبات أميركية في العراق صحيح، إلا أن واشنطن لم تراجع حتى الآن الملف بعقل نقدي، بل إنها تتبجح بأفعالها وأعمالها وإنجازاتها الخارقة. أميركا فعلا تفكر في الخروج من مأزق العراق، ولكنها لا تفكر الآن في الانسحاب العسكري. فالمسألة طويلة ومعقدة وربما تحتاج إلى أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات وهي فترة كافية لقواتها لتحقيق الكثير لضمان أمن "إسرائيل" وأمن النفط وبعثرة المنظومة الاقليمية التي ترتكز في جوهرها السياسي على الدول المركزية العربية والإسلامية "مصر، سورية، السعودية، وإيران"
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 892 - الأحد 13 فبراير 2005م الموافق 04 محرم 1426هـ