تحدثنا أمس عن مؤسسة "الحسينية" وكيف أنها تلعب دورا محوريا في حياة المسلمين الشيعة منذ ألف عام. وداخل الحسينية هناك أمور كثيرة، ولكن أهم ما بداخل الحسينية هو "المنبر الحسيني"، ومن يعتلي هذا المنبر يحصل على "آذان صاغية" ويستطيع أن يوصل أفكاره وأقواله أمام جمهور "مستمع" بكل ما للكلمة من معنى... فما قصة المنبر الحسيني؟
المنبر الحسيني هو المكان الذي يعتليه الخطيب الذي يتحدث عن قضية الإمام الحسين "ع" ويذكرهم بما جرى للحسين وأهل بيته في العام 680م. وبداية الأمر لم يكن هناك منبر وإنما كان هناك شعراء يلقون القصائد عما جرى للإمام الحسين، وكان أول شاعر التقى الإمام الحسين هو الفرزدق الذي كان قد أخذ والدته إلى الحج في العام 680م. التقاه الحسين عندما كان يهم بالخروج من مكة قاطعا حجه في اليوم الثامن من ذي الحجة، وذلك بعد أن علم أن يزيد بن معاوية أمر بقتله حتى لو كان متعلقا بأستار الكعبة... وعندما سأله الحسين عن الكوفة وأهل العراق، أجاب الفرزدق بأن "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".
ثم يذكر التاريخ الشاعر دعبل الخزاعي الذي عاش في فترة الإمام علي بن موسى الرضا "ع" - عاش الرضا بين الاعوام 765م و 818م، أي بعد نحو قرن من استشهاد الحسين - ودعبل لديه القصيدة المشهورة "أفاطم لو خلت الحسين مجدلا وقد مات عطشانا بشط فرات".
بعد إقامة مؤسسة "الحسينية" قبل ألف عام في القاهرة "أيام الدولة الفاطمية" بدأ يعتلي المنبر خطباء، وهؤلاء تطورت أساليبهم في الخطابة عبر القرون وعبر مختلف البلدان. فقد كان هناك من يلقي القصائد فقط، وتطور الأمر إلى قراءة القصائد وسيرة أهل البيت، ثم تطور إلى قصائد وسيرة وحديث علمي عن شأن من الشئون التي تهم الناس.
علماء الدين الإيرانيون كانوا من أوائل من أضاف إلى المنبر الحسيني "الحديث العلمي"، وكان الفقيه الإيراني يعتلي المنبر بصورة طبيعية، بينما كان علماء الدين العرب يفصلون بين الاثنين؛ فالفقيه العربي لا يعتلي عادة المنبر الحسيني معتبرا أن ذلك تخصص "الملا" فقط.
في القرن التاسع عشر الميلادي ظهرت شخصية "الملا علي بن فائز" في البحرين، وأصله مختلف عليه، فالبعض يقول انه أحسائي والبعض يقول إنه عراقي. المهم أنه جاء إلى البحرين للعمل فلاحا وكان فقيرا جدا، حتى أنه لم يمتلك قيمة الأوراق والأقلام وكان ينظم الشعر على الرمل قبل أن يحفظه. ارتقى المنبر وأصبح "أمير المنبر الحسيني" فترة طويلة وتميز شعره المخلوط بين الفصحى واللهجة العراقية، وأصبح من أهم ما يتداوله الخطباء لفترات طويلة، ومازال يسمع من على المنبر حتى اليوم ويسمى شعره بـ "الفائزيات".
بعده مباشرة ومنذ مطلع القرن العشرين ظهر "الملا عطية بن علي الجمري" وأسس أسلوبا جديدا في رثاء الإمام الحسين "ع" هو السائد حتى يومنا هذا في البحرين، ويسمى شعره بـ "الجمرات"، وهو يعتمد الشعر النبطي المخلوط باللهجتين العراقية والبحرينية.
على أن أهم شخصية عربية ارتقت المنبر الحسيني في القرن الماضي كانت من العراق، وهو المرحوم الشيخ أحمد الوائلي الذي ابتكر أسلوبا في الخطابة الحسينية، يبدأ بالقصيد "الشعر باللغة العربية الفصحى" أو بالأبيات النبطية أحيانا، ثم يبدأ موضوعا لتفسير آية قرآنية وينتهي بالشعر الذي يكون عادة بالأسلوب النبطي "إذا كان يقرأ في البحرين يستخدم أسلوب الجمرات".
أسلوب الوائلي أصبح النهج السائد لدى الأوساط الشيعية العربية، على رغم أنه لم يكن هو الذي ابتكره، وإنما قام بتطويره، لأن الإيرانيين كانوا يطرحون المسائل العلمية والفقهية والحياتية منذ زمن ليس بالقصير.
الخطابة الحسينية تسير عادة في اتجاه واحد... الخطيب يتحدث والآخرون يستمعون، إلا أن تطويرا آخر بدأ قبل نحو عامين أو أكثر في البحرين على يد الشيخ حميد المبارك. وهو الآن الوحيد في البحرين الذي يسمح بمقاطعته والرد عليه والاستفسار أثناء وجوده على "عرش" المنبر الحسيني... وهذا يفسر الحضور النوعي الذي تحظى به الحسينيات التي يخطب فيها حاليا.
التطوير المنبري الذي استحدثه الشيخ حميد المبارك يواكب حركة العصر، اذ ان هناك الحديث الدائم عن "التفاعلية" inter-active في مجالات الحياة، وحتى أجهزة التلفزيون اصبحت برامجها تعتمد على ردود الجمهور التي ترسل أحيانا بالرسائل النصية ... والبحرين جديرة بان تتولى مهمة تطوير المنبر الحسيني لانها ارتبطت به على مدى الف عام ولم تنقطع عنه ابدا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 892 - الأحد 13 فبراير 2005م الموافق 04 محرم 1426هـ