استبعاد مسألة الإصلاح من برنامج الولايات المتحدة في الشهور المقبلة بسبب ضيق الوقت وطموحات إدارة البيت الأبيض في استغلال الفرصة التاريخية لتغيير خريطة طريق "الشرق الأوسط" يجعل من الساحة العراقية نقطة تجاذب رئيسية للسياسة الأميركية في الأمد المنظور. فالعراق سيبقى إلى فترة ليست قصيرة مركز انطلاق للعمليات الأميركية على رغم الصعوبات الميدانية التي يواجهها الاحتلال.
واشنطن لن تتخلى عن العراق بسهولة ولن تغادره قريبا فهي وضعت فيه كل ثقلها السياسي والمالي والمعنوي ضمن رؤية استراتيجية كبيرة تريد تنفيذها على الأرض عن طريق التقويض لإعادة تشكيل خريطة دول "الشرق الأوسط" وفق نموذج مختلف عن ذاك الذي رسمته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى "فرنسا وبريطانيا".
وبسبب الحاجة الأميركية إلى موقع العراق وأهمية بلاد الرافدين الجغرافية في المساعدة على رسم تلك الخريطة السياسية فإن الاحتلال سيعمل على توظيف تلك الساحة لتمرير خططه العامة في المنطقة. فالعراق يشكل الآن للسياسة الأميركية حجر الزاوية في المعادلة الجديدة وهو يشبه تلك الرافعة التي تضغط لخلخلة المنظومة الاقليمية العربية والإسلامية التي استقرت عليها المنطقة في العقدين الماضيين.
مسألة احتلال العراق ليست حادثا عارضا في السياسة الدولية وبالتالي فإن تفكيك تلك المسألة واحتواء تداعياتها يحتاج فعلا إلى تكاتف قوي بين دول المنطقة ذات الوزن المركزي الاقليمي. وهذا ما عملت واشنطن على منعه إذ نجحت بحدود نسبية في تعطيل امكانات تطور علاقات الدول المركزية في المحيط الاقليمي العربي الإسلامي. فالعراق المحتل يمثل ذاك العازل السياسي بين دول المنطقة ويشكل ايضا نقطة ارتكاز لواشنطن لتنفيذ سياسة تقويض العلاقات الثنائية "سورية - إيران" أو الثلاثية "سورية، مصر، والسعودية" من خلال خلخلة المنظومة الاقليمية عن طريق الترهيب العسكري وابتزاز المنطقة أمنيا واقتصاديا.
العازل الجغرافي هو أحد أبرز المتغيرات السياسية في المحيط العربي - الإسلامي وهو يشكل نقطة قوة للاستراتيجية الاميركية من الصعب تصور أن واشنطن ستتخلى عنها بسهولة وقبل تحقيق بعض مخططاتها ومعظمها يصب في مصلحة أمن "إسرائيل" وأمن النفط وإعادة صوغ دول المنطقة وفق تصورات لا تتطابق بالضرورة مع مشروعات التقسيم التي افتعلتها دول الانتداب بعد تفكك المظلة العثمانية.
أميركا الآن تعتبر أن الأنظمة العربية نجحت بعد صعوبات طويلة في التكيف مع أشكال دولها التي صنعها الجنرالات ووزراء الخارجية في تلك الفترة. وترى أيضا أن المنطقة حتى لا تستقر وتستوي على منظومات اقليمية متقدمة على اشكال التقسيم التي رسمت سابقا تحتاج إلى جنرالات جدد ووزراء خارجية يتميزون برؤية استراتيجية مختلفة تعيد تقسيم التقسيم حتى تضطرب المنطقة مجددا وتدخل في فوضى سياسية تلعب فيها العصبيات الدور الرئيسي في تحريك المذهبية والطائفية وتعيين الاستقطابات.
أميركا إذا تهدف إلى تفكيك أو عزل أو اضعاف الدول الاقليمية المركزية لمنع احتمالات تطور تكيفها مع التقسيمات السابقة وإعادة تأسيس أشكال سياسية مختلفة تتناسب مع رؤيتها الاستراتيجية وتوفر لدولة "إسرائيل" الأمن الطويل المدى والتفوق العسكري الكاسح ضد مجموع دويلات المنطقة المفترض قيامها بعد استكمال عمليات العزل والخلخلة والتقويض.
هذه الاستراتيجية التفكيكية بحاجة إلى شروط دولية مناسبة للمباشرة بها. وهذا لا يتم إذا تخلت أميركا عن ساحة العراق كنقطة جذب وتجاذب للدول الاقليمية.
واشنطن تعتبر الآن أنها أوفت بالتزاماتها الدولية في العراق وهي باقية هناك ما دامت الهيئة المنتخبة بحاجة إليها أو لم تطلب منها المغادرة. وهي لن تغادر في أية حال قبل أن تضمن مصالحها وهذا لن يتم قبل مرور الوقت المطلوب الذي يرجح أن يزيد على السنتين.
مقابل هذا الوفاء بالالتزامات تضغط واشنطن على أوروبا وروسيا بشأن الملف الإيراني لنقله إلى مجلس الأمن. وتضغط على سورية بشأن الملف اللبناني وامتداداته الفلسطينية والعراقية. وتضغط ايضا على مصر من خلال البوابتين السودانية والفلسطينية.
والهدف من هذه الضغوط عزل القوى الاقليمية المركزية عن بعضها وفك ارتباطها المصلحي والأمني الذي يحافظ على التوازن العسكري مع "إسرائيل" في حدوده الدنيا.
إذا هناك مرحلة خلط أوراق تسبق لحظة التقويض وهي ليست بالضرورة كلها عسكرية بل هناك جوانب أخرى كثيرة تتعلق بالتقويض السياسي من خلال استخدام الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 891 - السبت 12 فبراير 2005م الموافق 03 محرم 1426هـ