كنت ولاأزال أؤمن أن الناس عندما تترك بعيدا عن الوصايات من كل نوع فبإمكانها أن تصوغ أشكالا من التعايش بعيدة عن التكلف والخطابة. .. وصايات المتعصبين من كل الأشكال. يبدو هذا التأكيد ضروريا في أيامنا هذه التي لا يتحدث فيها الناس في أي شأن إلا واستبقوا كلامهم بعبارات باتت مستهلكة عن الوحدة الوطنية إلى الحد الذي باتت كثرتها تجعلنا نوقن أن هذا الإلحاح عليها ليس سوى تعبير عن فقدانها.
لكن في أيامنا البعيدة لم نكن نحتاج إلى مثل هذه العبارات الطنانة لأننا ببساطة كنا نعيشها يوما بيوم. أتحدر أنا من عائلة سنية شافعية تقطن أحد أحياء جنوب المحرق. وفي حينا هذا تمر كل مواكب العزاء في المحرق، تلك الآتية من شمال المدينة من فريق "الحياك" و"الصاغة" وهي تمر على فريق "البنائين" المجاور لحينا قبل أن تواصل طريقها إلى "الحالة" وصولا إلى مأتم "كاووش" ومن ثم "كريمي" و"الشهابي" شرق المحرق والعكس.
ليست المواكب والعشرة الأول من محرم الحرام هي العنصر الوحيد في هذا المشهد، بل خلف هذا تكمن علاقة حياة يومية بكل تفاصيلها الأخرى، العلاقة التي ستقودنا في النهاية إلى محرم ومواكب العزاء التي ستجسد بالنهاية نوع هذه العلاقات والمقاييس التي تحكمها.
سأبدأ من تفصيل شخصي صغير. والدتي رحمها الله كانت معلمة قرآن "مطوعة" ومنشدة مدائح نبوية. وهي إلى خصال عدة، كانت تتمتع بحس روائي وموهبة في القص تنهل نفسه من القراءات المستمرة. وفي ليلة عاشوراء كانت تأخذنا نحن الصغار إلى بيت إحدى خالاتي لكي نشاهد المواكب وهي تمر من تحت شرفة البيت. كان ذلك البيت يصبح تجمعا للنسوة والأطفال وهناك تتبدى مواهب والدتي في القص والرواية. كانت النسوة والفتيات يطلبن منها أن تروي لهن قصة مقتل الإمام الحسين. القصة التي سمعنها مرارا وفي كل سنة، لكن أسلوب "مطوعة فاطمة" الشيق هو الذي يجذبهن.
الآن وبعد كل هذه السنوات، يستوقفني في رواية والدتي ما يمكن أن أسميه "نسخة سنية" من قصة مقتل الإمام الشهيد. وهي رواية لا تختلف عن الرواية المعروفة التي يتداولها خطباء المنابر الشيعة، لكن التدقيق في بعض التفاصيل قادني إلى أن فيها جرعة كراهية عالية وإضافية لقاتل سبط الرسول "ص". فهي عندما تصل للحظات الحاسمة، تفرد تفاصيل إضافية لوصف "شمر ابن ذي الجوشن" ومدى قبحه الذي يضعه خارج مواصفات البشر. والعبارات الأبلغ في هذا توردها على لسان الإمام الحسين الذي يطلب من قاتله أن يكشف عن وجهه وصدره قبل أن يقول: "صدق جدي رسول الله" ويرد عليه الشمر: "وفيم ذاك؟" ليجيب الإمام الحسين: "قال يا حسين... سيقتلك أعور، أكلب، شبه الخنزير". وتمضي في شرح هذا الحوار بين الحسين وقاتله وسط لعنات النساء ودموع بعضهن بأنه أعور العين، وفمه فم كلب وصدره صدر خنزير. تقولها بتأكيد قاطع وليس من باب التشبيه، فهي "رحمها الله" لم تكن تقول إن فمه يشبه فم الكلب بل "فم كلب" أو صدره يشبه صدر الخنزير بل "صدر خنزير". ولأن الرواية تكررت على مسامعي سنوات طوال، كنت ألحظ دوما أنها متماسكة ولا تتغير في أي تفصيل، الأكثر من هذا أني سمعتها من عجائز أخريات أيضا في الحي والقاسم المشترك فيها دوما هو ذلك الجزء المتعلق بالقبح الاستثنائي للشمر.
لست بصدد بحث أكاديمي، وهذه الاستنتاجات لا تزيد عما فيها بشيء سوى أنها تعبر عن جرعة إضافية عالية من الكراهية لقاتل الإمام الحسين، لكن هذه المبالغة في تقبيح قاتل سبط الرسول تنم من وجهة نظري عن وجدان واحد في النظر لهذا الحادث المفصلي الذي شكل التاريخ الإسلامي ولاسيما أن القصة تروى فيما مواكب الشيعة تطوف الشوارع لتحيي المناسبة.
إنه تفصيل صغير مثلما نرى، لكن إذا أضيفت إليه تفاصيل أخرى سنكتشف إلى أي حد يصبح الناس فيه قادرين على صوغ نماذج رائعة من التعايش. تفاصيل صغيرة مثل المساهمة ولو بشكل رمزي في مؤنة المآتم التي كانت تقوم بها بعض بيوت الحي، فهي إلى رمزيتها تمثل تقاليد إخاء ثابتة. الأبعد من هذا، هو العلاقة اليومية المستمرة بكل ما فيها من عواطف ومودات وخصومات صغيرة أيضا ومناكفات صغيرة أيضا.
بعيدا عن الوصاية، يبدع الناس في علاقاتهم والسبب بسيط جدا، فهم يصيغون ذلك من وجدانهم وعواطفهم لا من الحسابات العقلية الجامدة: الحسابات السياسية أو الطائفية الضيقة
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 890 - الجمعة 11 فبراير 2005م الموافق 02 محرم 1426هـ