سياسة تقويض "الشرق الأوسط" أسهل وأسرع بكثير من سياسة إصلاحه. فالإصلاح - إذا كانت الولايات المتحدة صادقة في الموضوع - يحتاج إلى سنوات ويتطلب أيضا سلسلة إجراءات قاسية لنقل العلاقات بين الدولة والمجتمع من دائرة التسلط إلى دائرة المشاركة في القرار السياسي. بينما التقويض لا يحتاج إلى سنوات طويلة لتحقيقه. وعامل الوقت ربما يلعب دوره في ترجيح احتمالات التقويض على مشروعات الإصلاح.
عامل الوقت إذا مسألة مهمة لقراءة الاتجاه العام الذي تريد الولايات المتحدة اختياره في السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة. وربما يكون هو العامل المرجح في تحديد المسارات الاستراتيجية لواشنطن سواء في علاقاتها الدولية مع الاتحاد الأوروبي وروسيا أو في ضبط تحالفاتها الإقليمية مع دول منطقة "الشرق الأوسط".
إذا كان خيار التقويض هو المرجح، فما السياسة التي يمكن أن تتبعها الإدارة الأميركية في الشهور المقبلة لتقوية عناصر القوة وبالتالي تبرير أسباب استخدامها الوسائل العسكرية في كسر التوازنات الإقليمية القائمة الآن؟.
خلال فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية اضطر البيت الأبيض إلى اتخاذ سلسلة إجراءات مرحلية لتكييف قلقه مع حاجات المعركة الداخلية ضد منافسه الحزب الديمقراطي. وتركزت تلك التكييفات على نقل ملف احتلال العراق إلى الأمم المتحدة والخروج بقرارات توافقية مع روسيا والاتحاد الأوروبي قضت بموضعة قوات الاحتلال وإعادة تجميعها تمهيدا لإجراء انتخابات ونقل السلطة إلى هيئة عراقية منتخبة.
مقابل هذا التنازل المحدود في العراق لجأت واشنطن إلى سياسة تجميع الأوراق بالتضامن مع الاتحاد الأوروبي والتفاهم مع روسيا. وانتهت تلك السياسة إلى صدور قرارات دولية تحدد المسارات المقبلة للاستراتيجية الأميركية في حال جدد للرئيس جورج بوش ولاية ثانية.
الآن انتهت مرحلة التسويات المؤقتة. فالرئيس بوش كسب الرهان الانتخابي وأقدم على تعديل طاقمه الوزاري وأخرج من إدارته تلك "الرموز المزعجة". فإدارة بوش الثانية أصبحت أكثر تماسكا وبالتالي اقتربت أكثر من السابق في التعبير عن أفكاره ومزاجه السياسي.
أمام بوش الآن مجموعة ملفات وهي كلها مرتبطة بمدى نجاحه في تجسير علاقاته المنهارة أو القلقة مع أوروبا وروسيا. فهناك أولا الملف الإيراني الذي لايزال قيد التداول في إطار الاتحاد الأوروبي ولم ينقل إلى الأمم المتحدة. وهناك ثانيا الملف اللبناني الذي يتضمن مجموعة أوراق لها صلة بالمستقبل الفلسطيني وموقع المقاومة ودور سورية. وهناك ثالثا الملف السوداني وما يعنيه من تداعيات لها صلة بالعمق الاستراتيجي لمصر والتهديدات المحتملة في حال تشرذم السودان إلى دويلات مناطق "ولايات".
هذه الملفات الثلاثة تتصل من قريب وبعيد بثلاث نقاط ساخنة، هي: العراق والنتائج السياسية المترتبة على الانتخابات. وفلسطين والنتائج المتوقعة من قمة شرم الشيخ وتقضي بعزل الانتفاضة وتطويقها. ومصر ومحاولات فك ارتباطها التقليدي مع سورية والسعودية.
إذا التقويض السياسي للمنظومة الإقليمية يسبق العسكري. والملفات الثلاثة "إيران، لبنان والسودان" ليست منفصلة عن النقاط الثلاث "فلسطين، مصر وسورية، والعراق"، فهي كلها تتجه نحو فك ارتباط القوى الإقليمية المركزية عن بعضها وعزلها جغرافيا وسياسيا. والتعطيل يبدأ بإلهاء كل قوة بمشكلات جزئية تعطل عليها إمكانات الرؤية، وتشوش قدرتها على التركيز على مسألة مركزية متصلة بتلك المتغيرات السياسية في جغرافية المنطقة وعلاقات دولها الإقليمية التي أحدثتها الحرب على العراق والمخاطر العسكرية الناجمة عن تمركز قوات احتلال تابعة إلى أقوى دولة في العالم في بلاد الرافدين. فالوجود العسكري الأميركي في العراق هو قوة تهديد لاستقرار المنطقة وأيضا يلعب دور العازل السياسي بفصل سورية عن عمقها الجغرافي العراقي وبعدها الاستراتيجي الإيراني. وهذا العزل السياسي - العسكري يشكل نقطة قوة أميركية للضغط على القوى الإقليمية المركزية "سورية، مصر، والسعودية" لإعادة النظر في اختياراتها السياسية والبدء في تشكيل رؤية مختلفة للعلاقات التقليدية بين دول المنطقة العربية - الإسلامية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 890 - الجمعة 11 فبراير 2005م الموافق 02 محرم 1426هـ