بدأ الحديث يثار بقوة عن برنامج إيران النووي في الشهرين الأخيرين من العام 2002 بدفوع أميركية وإسرائيلية، وترتب على ذلك دخول أوروبا على الخط وزيارة وزراء خارجية كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا لطهران في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2003 وتوقيع ما كان يعرف باتفاق سعد آباد الذي قضى بأن توقع طهران البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن تعترف حكومات تلك الدول بحق إيران في التمتع باستخدام سلمي للطاقة النووية طبقا لاتفاقات منع الانتشار النووي، وما تلا ذلك من حنث أوروبي وإخفاقات ثم مباحثات ومناقشات مستميتة بين الجانبين أفضت إلى اتفاق آخر سمي باتفاق باريس في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني . 2004
خيار الردع النووي
عندما نتحدث بواقعية مجردة ووفقا لما تمليه الظروف الدولية المعقدة ومنطقها الميكيافيلي المتجاوز لأي مألوف وتصور تقليدي وفي ظل التصعيد الأميركي والإسرائيلي بضربة عسكرية محتملة لإيران، فإن الأخيرة التي تواجه ميزانا قويا وسريع التغير على حدودها، ثم أقدار الجغرافيا التي وضعتها فوق صفيح ملتهب سياسيا وعسكريا وحتى إثنيا ترى أن سياسة حافة الهاوية التي تتبعها في ملفها النووي ربما تكون أفيد في هذه المرحلة، وعلى رغم أنها ترى أيضا نفسها ملزمة بعدة قيود دولية كمعاهدة إن بي تي "1968" ومعاهدة سي تي بي تي "1971" - والتي بالمناسبة لم توقعها الولايات المتحدة الأميركية - والقرار الأممي رقم 687 عن إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية فإنها تدرك جيدا أنه ومع وجود حال من الاستثناءات أو التجاوزات على شرعية القرارات الدولية فيما يتعلق بامتلاك الطاقة النووية ومن ثم تحويلها إلى وسيلة عسكرية ذات رادع غير تقليدي بدءا بتوسع أعضاء النادي النووي وإلغاء واشنطن لاتفاق أي بي إم عن حظر الصواريخ الباليستية الموقعة في العام 1972 ورغبتها في تنفيذ مشروعها الصاروخي إن إم بي ومرورا ببقاء "إسرائيل" سادس قوة نووية في العالم ورفضها المستمر وغير المكترث بقرارات الأمم المتحدة 5547 و7848 و4851 ووجود قوتين نوويتين آسيويتين "جنوب غرب" وهما باكستان والهند تبقى عملية تحولها "أي إيران" إلى قوة نووية خيارا جديا وخصوصا أن ذلك التحول سيكرس حضورها الدولي سياسيا وعسكريا ويجنبها خطر التهديد العسكري الخارجي،
لأن امتلاك أي دولتين السلاح النووي سيمنع نشوب الحرب بينهما كما تقول المدرسة الواقعية وخصوصا تجنب ضربة أميركية أو إسرائيلية، بالإضافة إلى أن امتلاكها السلاح غير التقليدي سيؤدي إلى توهين القوة النووية الإسرائيلية المتسيدة في المنطقة وجعلها أقل حدة من ناحية التأثير العسكري والاستراتيجي على الدول المستهدفة بما فيها الدول العربية على رغم أن حيازة ذلك السلاح لا يعني بالضرورة إمكانية استخدامه، باعتبار أن نتائجه ستكون كارثية ومهولة.
وأمام وجود قوة عسكرية إيرانية تقليدية يمكن أن تشكل تقنية جاهزة لتنفيذ ضربات نووية أو استيعاب لها فإن ذلك سيجعل التهديد القادم من وراء المحيطات أكثر تحييدا، فالتقارير العسكرية تشير إلى قدرة الجمهورية الإسلامية على إنتاج صواريخ منظومة شهاب 3 و4 و5 التي تعمل بنظام Homing أي وجود كاميرا وكمبيوتر في رأس الصاروخ تطابق صورة الهدف المأخوذ مسبقا مع صورة الهدف الذي تحصل عليه الكاميرا عند اقترابها من الهدف وصواريخ كروز و سي 802 وإس إس 4 المعروف بساندال وصواريخ الوقود السائل والصلب بما فيها إمكانية تصنيعها من حيث الجسم الخارجي والوقود والرؤوس الحربية وأجهزة التوجيه والتوازن كما أنها تمتلك أسرابا من طائرات سوخوي 24 و25 وإف 14 وميج 29 وميراج الفرنسية وطائرات هجر وفجر وإيران 140 محلية الصنع بالإضافة إلى الغواصات الروسية التي طورتها الهند لصالح إيران لمواءمة عومها في المياه الدافئة، أضف إلى ذلك امتلاكها منظومات رادارية سلبية مثل منظومة فينيكس التي تتميز بعدم إصدارها إشعاعات، الأمر الذي يمنع اكتشافها في حين تستطيع اكتشاف 100 هدف جوي معاد في وقت واحد مع قدرة على اكتشاف الطائرات على بعد 20كم والصواريخ المجنحة على بعد 7كم وتتعامل مع ثمانية صواريخ في وقت واحد بالإضافة إلى قدرة تلك المنظومة على اكتشاف طائرات إف 117 أو الشبح غير المرئية وبي 1 وبي 2 وهي كلها أمور قد تدفع الآخرين للتحسب من الدخول في مغامرة غير مأمونة العواقب، يضاف إلى أن طهران قد تلجأ إلى إشعال جبهة الشمال الإسرائيلي عن طريق حزب الله والداخل الإسرائيلي عبر المنظمات الفلسطينية المسلحة.
وعلى رغم أن الاستراتيجيين العسكريين في مراكز أبحاث الغرب يعتقدون بأن إيران إذا لم يتم التعامل مع قدراتها النووية والتسليحية قبل نهاية العام 2005 بخيار عسكري فإن الأمر سيزيد تفاقما بعد ذلك التاريخ باعتباره زمنا مفترضا لاستحصالها على القدرة النووية اللازمة كسلاح ردع، إلا أن ذلك الحل أيضا يبقى بعيد المنال بسبب التورط الأميركي في العراق وعدم قدرة الجيش الأميركي على تلبية المهمات العسكرية للسياسة الخارجية قبل العام 2010 - ،2012 كما أن التقارير الاستخبارية الأميركية تقول إن إيران وزعت مفاعلاتها النووية ومراكز الأبحاث في أكثر من 30 موقعا ذو تباين جغرافي واسع وهو ما يجعلها قادرة على استيعاب الضربة الأولى التي ستعطيها المبرر الشرعي للرد وانسحابها من معاهدة حظر الانتشار النووي، وإذا ما قررت واشنطن فرض عقوبات على إيران في قطاعي النفط والغاز فإن هذين القطاعين سيشهدان ارتفاعا فلكيا في الأسعار الدولية، كما أن أوروبا لن تدخل في هكذا تحرك باعتبار أن 85 في المئة من تجارة إيران هي مع خمس دول أوروبية أهمها ألمانيا، كما أن أوروبا تدرك خطورة السياسة الخارجية الأميركية في السيطرة على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للتحكم بأوروبا، وبالتالي فهي أيضا تعمل على إفشال تلك السياسة الساعية إلى تحجيمها أو تقزيمها، ولكن تبقى جميع الاحتمالات أمام ضربة عسكرية أميركية أو إسرائيلية لطهران مفتوحة لاعتبارات قد تكون طارئة وتفرض نفسها عالميا وإقليميا.
خيار اتفاق باريس
قد تمضي طهران في مفاوضاتها مع الأوروبيين والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الحد الذي يعطي الآخرين مزيدا من الثقة والاطمئنان، متبعة في ذلك - كما قلنا - سياسة حافة الهاوية لكسب المزيد من الوقت وأقصى مساحة متاحة من المناورة لتقليص التنازلات والالتزامات، وهو ما لوحظ جليا في مفاوضاتها السابقة والحالية. على كل حال بعد فشل اتفاق سعد آباد بين الأوروبيين وإيران وقع اتفاق آخر بين الجانبين بعد عناء مرير سمي باتفاق باريس حاول الأوروبيون فيه فرض قيود أكثر تشددا إلا أنه سمح أيضا بأن يقوم مجلس الحكام في الوكالة الدولية بإصدار قرار أقل حدة تجاه طهران، وفيما يأتي قراءة في ماورائيات ذلك الاتفاق:
1- روعيت في اتفاق باريس الخطوط الحمراء التي وضعتها طهران وهي الدخول في دورة الوقود النووي، على رغم أن الإمام الخامنئي أعلن قبل سنتين أن طهران ستكمل قريبا دورتها في الوقود النووي.
2- روعيت في الاتفاق المذكور الموضوعات الثمانية التي وضعتها طهران والتي من ضمنها مساعدة الأوروبيين لها في الدخول إلى منظمة التجارة العالمية، والذي سيمكنها من تحرير الكثير من عملياتها التجارية من استيراد وتصدير ومعاملات أخرى.
3- أفضى اتفاق باريس إلى أن يقوم مجلس الحكام التابع للوكالة الدولية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بإصدار قرار يقر فيه بأن وقف تخصيب اليورانيوم الذي قامت به طهران هو خطوة لبناء الثقة ولا تترتب عليه التزامات قانونية، وهو مكسب مهم سيعطي إيران فرصة لإعادة العمل بالتخصيب في حال فشل المفاوضات الجارية وهو ما صرح به أخيرا.
4- أعطى اتفاق باريس طهران فرصة لأن تقوم بإنتاج مسحوق تترافلورور اليورانيوم "يو إف 4" الضروري لإنتاج اليورانيوم المخصب من دون أن يتعارض مع قرار التعليق مستفيدة من اتفاق سابق مع الترويكا الأوروبية وقع في نوفمبر الماضي لا يشمل ما قد تقوم به في هذا المجال، علما أن هذا المسحوق ينتج من الكعكة الصفراء وهي مادة تتضمن اليورانيوم بنسبة 70 في المئة وتشكل المرحلة ما قبل الأخيرة في تخصيب اليورانيوم مباشرة قبل إنتاج غاز هكسافلورور اليورانيوم "يو إف 6" ليدخل مباشرة إلى أجهزة الطرد المركزي للحصول على يورانيوم مخصب يستخدم في المفاعلات النووية المدنية والسلاح الذري.
5- خروج محطة بوشهر النووية من الاتفاق، وأعلن الأسبوع الماضي أنها ستعمل في نهاية الشتاء المقبل وأن مشروع منجم اليوارنيوم في ساغند يسير بشكل جيد وأن اليورانيوم المستخرج من هذا المنجم والذي سيتم تبديله إلى أوكسيد اليورانيوم الطبيعي المعروف بالكعكة الصفراء بعد طي مراحل كيماوية سيتم الإفادة منه في المراحل الأخرى من دورة الوقود التي أقرها الاتفاق.
6- قد يعطي الاتفاق المذكور لكل من روسيا والصين مساحة أكبر من التعاون النووي بينها وبين إيران وهو ما أكدته روسيا عقب توقيع الاتفاق المذكور، فالنشاط النووي الروسي مع طهران كان دائما تحت المجهر واحتجاجات الولايات المتحدة الأميركية وكانت كل خطوة تفاهم بين البلدين في ذلك المجال تحتاج إلى تبريرات سياسية ودبلوماسية من جانب روسيا وإيران على السواء
إقرأ أيضا لـ "هادي الموسوي"العدد 889 - الخميس 10 فبراير 2005م الموافق 01 محرم 1426هـ