أظن أننا في مواجهة ظاهرة ملفتة للنظر جديرة بالاهتمام، لما لها من تأثيرات حالية ومستقبلية على المناخ السياسي عموما، وعلى نظم الحكم في المنطقة خصوصا. ..
والظاهرة التي نعنيها هي صعود الأحزاب الدينية التي لبست عمائم سياسية، إلى واجهة الأصوات والانتخابات، في وقت تختلف فيه الآراء حول مدى إيمانها بالانتخابات الحرة وسيلة من وسائل ممارسة الديمقراطية، وفي وقت تتكاثر من حولها الاتهامات من الداخل ومن الخارج، بدعوى تعاطفها أو مساندتها للإرهاب وجماعات التكفير غير المؤمنة أصلا بالديمقراطية.
علامات هجوم الأحزاب الدينية على صناديق الانتخابات، وعلى ساحة العمل والإصلاح الديمقراطي عموما تمثل باختصار في ثلاثة مؤشرات.
المؤشر الأول جاء من غزة، إذ اكتسحت حركة المقاومة الإسلامية، "حماس" الانتخابات البلدية، على حساب حركة فتح، التي كانت تطرح نفسها دوما على أنها صاحبة الشعبية الأولى، لكن حماس فعلتها في غزة، فإن أكملتها باكتساح انتخابات الضفة الغربية حين تجرى، فستطرح تحديات هائلة ليس فقط على فتح وباقي المنظمات السياسية الفلسطينية، ولكن أيضا على دولة الاحتلال "إسرائيل" ذاتها، بل على الدول العربية الأخرى، التي تدرك مدى طموح الأحزاب الدينية إلى القفز للحكم.
المؤشر الثاني أت فورا من العراق، إذ تؤكد كل الدلائل أن قائمة الائتلاف الموحد التي رعاها وشجعها المرجع الشيعي الأعلى السيدعلي السيستاني، هي التي فازت بالغالبية في انتخابات العراق يوم 30 يناير/ كانون الثاني الماضي، والتي يرى فيها الأميركيون وحلفاؤهم من المتأمركين العرب، أنها ستكون نقطة بدء الثورة الديمقراطية في المنطقة كلها.
ولأننا قلنا رأينا من قبل في الانتخابات العراقية هذه ومدى شرعيتها وصدقيتها، فإن حديثنا اليوم ينصرف إلى جزئية فوز القائمة الموحدة التي تضم عددا من الأحزاب والمنظمات الدينية الشيعية، مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، ومنظمة بدر، وحزب الدعوة الإسلامية، وحزب الفضيلة الإسلامي، ومنظمة العمل الإسلامي... وغيرها، وهي بفوزها تؤكد ما بدأنا به، أي هجوم الأحزاب الدينية أو ذات الصبغة والشعارات الدينية على ساحة الانتخابات والعمل السياسي... واكتساحها!
أما المؤشر الثالث، فقد جاء من الكويت، بإعلان مجموعة من التيار السلفي الناشط تأسيس حزب إسلامي باسم حزب الأمة... وبصرف النظر عن مدى قوة هذا الحزب وتأثير مؤسسيه، ومدى تعامل السلطات معه، إلا أنه يؤشر هو الآخر إلى أن الجماعات الإسلامية، حتى في البلدان العربية التي تمنع قيام الأحزاب السياسية، كما هو حال دول الخليج العربي عموما، قد تجرأت أخيرا على التحول نحو أشكال الأحزاب السياسية المعلنة.
وعلى رغم أن الساحة الكويتية تمتلئ بتنظيمات وجمعيات تسمى "جمعيات النفع العام" تنشط سياسيا ومهنيا ونقابيا، وتتوزع بين تيارات إسلامية وعلمانية، وبين سنية وشيعية، وقبلية وحضرية، فإن القانون يمنع قيام الأحزاب السياسية، فإذا بمؤسسي حزب الأمة الإسلامي يكسرون حاجز الصمت أو المنع بحجة "أن حكومة الكويت التي تدفع باتجاه قيام تعددية سياسية وتداول سلطة بين الأحزاب في العراق يجب ألا ترفض هذا الحق في بلدها"، كما قال أحد هؤلاء المؤسسين قبل أيام، إلا أن وقوع حوادث العنف المسلح المتتالية من جانب الجماعات التكفيرية خلال الأسابيع الأخيرة في الكويت، قد ألقى بكثير من ظلال الشك على مثل هذا الحزب وقدرته على اكتساب الشرعية القانونية.
المهم أننا بدأنا بمعالجة هذا الموضوع الشائك بهذه المؤشرات الثلاثة من فلسطين والعراق والكويت، لا لأنها فريدة في نوعها، ولكن لأنها الأحدث زمنيا، إنما أصل الموضوع هو اشتعال الساحة السياسية العربية، بنشاط الأحزاب والمنظمات الدينية الساعية نحو صناديق الانتخابات، في ظل مناخ عام يضغط من أجل الإصلاح الديمقراطي وتداول السلطة من جانب قوى شعبية كثيرة في الداخل، وفي ظل ضغوط أجنبية أقسى وأمر، تفرضها أميركا على النظم الحاكمة... وهنا تكمن العقدة!
الأحزاب الدينية، وقد جربت واختبرت قوتها في أكثر من مكان، تطالب بالانتخابات الحرة العلنية، اعتمادا على سر قوتها هذه، ألا وهي الكامنة في ثلاثة عوامل، الأيديولوجية الإيمانية، والتنظيم الحديدي المنضبط، والتمويل السخي، الأمر الذي تراه ضامنا لتفوقها في المنافسة واكتساحها لأية انتخابات حرة، وهي تتحدى أن يفتح أمامها المجال في مصر وسورية والجزائر والسودان... إلخ.
نظم الحكم القائمة، وقد أحست بقوة الضغوط الداخلية والخارجية، المطالبة بالإصلاح الديمقراطي الحقيقي، ومكافحة الفساد والتخلي عن الاستبداد، وتداول السلطة عن طريق الانتخابات الحرة، ترد بحجج مختلفة أهمها القول إن مثل هذه الانتخابات "المفتوحة" لو جرت لاكتسحها التيار الإسلامي بأحزابه العلنية والسرية، ليؤسس حكومات دينية "ثيوقراطية" تغلق باب الديمقراطية وتصادر الحرية وتمنع الانتخابات، بعد أن اتخذت منها جسرا سريعا للوصول إلى الحكم.
هكذا تحولت "الأحزاب الدينية" إلى فزاعة تستغلها الحكومات الحالية، للتهرب من إجراء إصلاح ديمقراطي حقيقي.
يبقى الطرف الثالث في المعادلة - العقدة، وهو "الصديق الأميركي"، الذي بنى كل استراتيجيته الكونية خلال عهد الرئيس بوش الابن، على ثنائية الحرب ضد الإرهاب، والحرب ضد الطغيان طلبا للديمقراطية... لذلك ومن باب التناقض المثير، نراه يتحالف على نظم الحكم العربية التي يتهمها بالفساد والاستبداد، لتساعده في الحرب ضد الإرهاب، وقد اجتهدت فعلا في تجفيف معظم منابع تمويل وتنظيم الشبكات المسلحة، وهو في الوقت نفسه يريد فرض نموذجه الديمقراطي المختار على نظم الحكم الحليفة هذه، وإجراء انتخابات حرة ومفتوحة، حتى لو جاءت بأحزاب دينية، ربما يراها معتدلة، وطالما حاورها وغازلها أحيانا، واتهمها بتفريخ الإرهابيين ونشر الفكر التكفيري الإرهابي في معظم الأحيان!
هكذا تداخلت الخطوط واختلطت المصالح بين الأطراف الثلاثة الرئيسية هذه فاحتلت وحدها الصدارة الفعلية، بحكم موازين القوة، وتركت الصدارة "الوجاهية" المظهرية للأحزاب السياسية والعلمانية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، وكلها للأسف مازالت أضعف من الحكومات، ومن التنظيمات الإسلامية، وطبعا من الصديق الأميركي، ولذلك تراها حائرة تدور في دائرة مغلقة من المناورات السياسية والتوافقات الحزبية المحدودة الأثر والإمكان، يلعب عليها الجميع، ولا تستطيع حتى الآن أن تلعب هي مع الجميع على قدم المساواة!
وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن "توحش" الدولة وتمدد أجهزتها ومؤسساتها البيروقراطية، وتمركز السلطة وتركز الثروة، ومن ثم ممارسة الاستبداد وشيوع الفساد، قد أدى إلى نتيجتين محددتين في المجال الذي نتحدث عنه، النتيجة الأولى هي إضعاف منظمات المجتمع المدني ومحاصرة الأحزاب السياسية، إذا كان مسموحا بها أصلا، وذوبان النشاط المجتمعي في هياكل السلطة التي ظلت القوة الأولى والأخيرة، والنتيجة الثانية هي انصراف النشاط العام، أفرادا وجماعات عن الدولة التي أهملت حل المشكلات الحياتية والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والإقبال على التنظيمات الدينية، بكل الخلفية الإيمانية المعروفة، وتحت كل عوامل الجذب والحشد والتجنيد والتمويل وحل المشكلات حتى العائلية والشخصية، ومن هنا اكتسبت الأحزاب والتنظيمات الدينية، إسلامية ومسيحية قاعدتها الشعبية!
ومن التبسيط المخل، أن ندعي أن هذا فقط هو سر صعود الأحزاب والتنظيمات الدينية، في هذه الفترة الشائكة، لكننا فقط نشير إلى عناصر مهمة، ساهمت في هذا الصعود الذي بات "ظاهرة سياسية" لها بعدها الديني، والتي تستدعي فهما أعمق لأسبابها، ومعالجة جادة لسلبياتها، وتحديدا دقيقا لمعنى الحزب السياسي، والحزب الديني، الدعوة السياسية والدعوة الدينية، إذ إن الخلط المتعمد بين اللعب بالدين، واللعب في السياسة أمر خطير، يهدد مبادئ الدين والعقيدة، مثلما يقوض قواعد الدولة المدنية الحديثة... والديمقراطية.
ومن غرائب اللعب هذه، أن تتسابق بعض الحكومات العربية، في تنافس مباشر أو غير مباشر، مع الحكومات الأميركية والأوروبية، على كسب ود ودعم الأحزاب الدينية، في وقت يعلم الطرفان - العرب والأوروأميركي - أنهما يعاديان من حيث المبدأ والمصالح، هذه الأحزاب، فالحكومات العربية بحكم انفرادها بالسلطة والثروة، لا تسمح لأحد غيرها بمنافستها، ومن ثم لا ترغب في أن ترى يوما حزبا سياسيا أو دينيا، يفوز في انتخابات حرة ويسحب الأرض من تحت أقدامها فيجلس في بيت الحكم بدلا منها ورغما عنها!
وأميركا خصوصا، بحكم قيمها الليبرالية وقواعد تأسيس الدولة، وفق الأسس العلمانية، لا تشجع نظم حكم دينية أو أحزابا من هذه الفصيلة، ولكن لضرورات البرجماتية، الانتهازية السياسية، تتحاور مرة وتناور مرة، وتحارب مرة...
وها هي أميركا الراهنة، تحت حكم المحافظين الجدد، وتأثيرات "التحالف المسيحي" وأصوات "حزام الانجيل" وقوة "المسيحيين الصهيونيين"، ترتد بغرابة إلى قيم الحكم الديني، وخصوصا في ما يتعلق "بقوة الخير المسيحي في مواجهة قوى الشر الإسلامي".
ولذلك فإن أميركا هذه إن كانت تتحاور أو تناور بعض الأحزاب الدينية في منطقتنا، بمنطق الانتهازية السياسية، فإنها في الواقع تكن العداء كله لها ولمبادئها وسياساتها، وتعمل حتما لمنع وصولها إلى الحكم، أو انفرادها به، فإن لم تنجح فإنها تقبل الحوار حول الحلول الوسط، وقد رأينا ذلك يحدث من قبل في أكثر من دولة، من المغرب إلى العراق، ومن مصر إلى الخليج، والهدف هو البحث عن تأمين مصالحها الحيوية في المنطقة، النفط، وأمن "إسرائيل"، والمواقع والطرق الاستراتيجية والسوق الاستهلاكية، حتى لا تقع في أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي سبق أن أرسلت طلائعها الانتحارية إلى نيويورك وواشنطن في سبتمبر/ أيلول ،2001 والتي استعادت بعض نشاطها في دول المنطقة!
لذلك إن كانت أميركا ومعها الحكومات العربية "المضغوطة" قد سكتت مؤقتا عن اكتساح حماس الإسلامية لانتخابات غزة، وفوز قائمة الأحزاب الدينية "الشيعية" في العراق، وغض البصر عن تحركات التنظيمات الإسلامية في الخليج واليمن وغيرهما، فإنه سكوت المناور الذي يستعد للانقضاض القوي...
أما حكايا الإصلاح الديمقراطي فهي مستمرة، على مسرح يسخر فيه الممثلون من المشاهدين، ويضحك هؤلاء على الجميع... انبساطا أو ازدراء!
ولنا مع الموضوع الشائك عودة بإذن الله، لما له من أهمية وجدية.
خير الكلام:
يقول خير الدين التونسي: الظلم مؤذن بفساد العمران
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 889 - الخميس 10 فبراير 2005م الموافق 01 محرم 1426هـ