الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش صاحب تفضحه تصرفاته. وتميزه عفويته التي يصفها البعض بالسذاجة عن سائر الذين سبقوه في منصبه بالبيت الأبيض. في مستهل أزمة العراق في العام 2002 وحين نشأ خلاف حاد بينه وبين المستشار الألماني غيرهارد شرودر لأن الأخير عارض غزو العراق ورفض مشاركة بلاده بالحملة العسكرية ضد العراق، حاول بوش التحيز للمعارضة الألمانية. إذ خلال زيارة روتينية كان يقوم بها رئيس حكومة هيسن رولاند كوخ والذي ينتمي للاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض وكانت ألمانيا على وشك انتخاب برلمان اتحادي جديد، كان كوخ مجتمعا مع ديك تشيني نائب الرئيس الأميريكي حين دخل جورج دبليو بوش مكتب تشيني من دون سابق موعد وألقى التحية على كوخ وجلس معه نصف ساعة.
تلقت برلين على أثر هذا اللقاء إشارة أن واشنطن ترغب في هزيمة شرودر. لكن في سبتمبر/ أيلول 2002 فاز الائتلاف الاشتراكي الأخضر بولاية ثانية ثم فاز بوش بولاية ثانية في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وكانت برلين تأمل بفوز جون كيري ونهاية عهد الإدارة اليمينية المحافظة في واشنطن. وتجد برلين أنها على حق في الموقف الذي اتخذته تجاه حرب العراق. الفوضى القائمة في أنحاء هذا البلد وصعوبة تحقيق الاستقرار فيه والمقاومة التي قلل الأميركان من أهميتها ثم أرقام الجنود الأميركيين القتلى والتي زادت عن 1400 جندي قتيل، حذرت برلين منها لكنها وجدت آذانا صماء في واشنطن.
أكثر من 1400 جندي أميركي سقطوا في الحرب التي تلت الحرب. واكتشفت القوة العظمى أن لقوتها حدودا. لذلك بدأت تتقرب مجددا من حلفائها في أوروبا القديمة الذين ظنت أنه بوسعها إتمام مهمة العراق من دونهم. وشاء القدر أن يعين بوش مستشارته السابقة للأمن القومي كوندليزا رايس في منصب وزيرة الخارجية خلفا لكولن باول.
وكانت رايس المحسوبة على الصقور في البيت الأبيض هي التي نصحت بوش بعد استفحال الخلاف مع دول أوروبا القديمة وقيام تحالف روسي فرنسي ألماني مناهض للحرب بأن يصفح عن روسيا ويتجاهل ألمانيا ويعاقب فرنسا. قبل وقت قصير على زيارته القصيرة لألمانيا بتاريخ الثالث والعشرين من فبراير/ شباط الجاري في أول زيارة لأوروبا بعد إعادة انتخابه بعث بوش بإشارة إلى برلين توضح أنه أصبح على استعداد لتغيير موقفه المتصلب حيال حكومة شرودر وهذا ما دل عليه تصرف مفاجئ مرة أخرى. في الأسبوع الماضي وحين كان وزير الداخلية الألمانيأوتو شيلي الذي ينتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم يعقد اجتماعا في البيت الأبيض مع مستشار البيت الأبيض للأمن القومي ستيفين هيدلي دخل بوش غرفة الاجتماع دون سابق موعد مصطحبا معه أحد مصوري البيت الأبيض.
تحدث بوش مدة 25 دقيقة مع وزير الداخلية الألماني ووصفه بأنه صديق للولايات المتحدة وأثبت ذلك في أصعب الأوقات التي سادها توتر في العلاقات بين واشنطن وبرلين. طلب بوش من شيلي أن ينقل للحكومة الألمانية رغبة واشنطن بأن تدعم ألمانيا الحكومة العراقية المنتخبة وأن تبذل ألمانيا قصارى جهدها في مساعدة العراق لاستعادة عافيته. شيلي الذي شعر أن بوش أكرمه بهذا اللقاء المفاجئ وعد بأن تسهم ألمانيا في إعادة بناء العراق الجديد عن طريق المساعدة في بناء مؤسساته الأمنية ونظام العدل ووضع دستور جديد وأن يقوم خبراء ألمان في تقديم المشورة للخبراء العراقيين في هذه المجالات. قال بوش للوزير الألماني أنه يتشوق لزيارة ألمانيا وأن سماعه عزم فئات من الشعب الألماني القيام بمسيرات احتجاجات ضد زيارته لا يثير قلقه.
بادرة بوش تجاه وزير الداخلية الألماني والرسالة التي حملها الأخير إلى برلين إضافة إلى حرص وزيرة الخارجية الأميركية على عدم استفزاز برلين وإجماعها مع المستشار الألماني على أن واشنطن وبرلين بصدد إعادة ترتيب علاقتهما تشير مجتمعة إلى عزم إدارة بوش إنهاء حال توتر العلاقات مع برلين. ويعتقد المراقبون أن الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في العراق هي التي دفعت بوش ومستشاريه إلى إعادة التقرب من ألمانيا وفرنسا.
وكان وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد المثير للجدل قد وصف الدول الأوروبية التي عارضت حرب العراق بأوروبا القديمة فيما وصف الدول الأوروبية التي ساندت الولايات المتحدة بالحرب بأوروبا الجديدة.
سرعان ما اكتشف شرودر سلاح بوش الجديد: كوندليزا رايس التي عقد معها جلسة مباحثات يوم الجمعة الماضي في برلين استمرت ساعة على رغم أن مدتها كانت محددة نصف ساعة فقط. مثلما كان متوقعا طال اللقاء ليعبر الجانبان عن أن إصلاح الأمور بين واشنطن وبرلين يحتاج لوقت أطول. نادرا ما كانت الحوادث الجارية في المنطقة العربية فقط موضع بحث بين كبار المسئولين الألمان والأميركيين. النقاط التي تبحثها رايس مع محدثيها في جولتها لأوروبا والشرق الأوسط هي: العراق والنزاع النووي مع إيران والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. في كل عاصمة تزورها رايس يجري وزن كلماتها بميزان الذهب إذ لأول مرة يشعر أطراف الحوار معها في أوروبا وفي الشرق الأوسط أنهم يتحدثون مع مسئولة أميركية تعكس طريقة تفكير بوش وتستطيع التأثير عليه. وقال شرودر مازحا خلال المؤتمر الصحافي المشترك حين منحت رايس حق إلقاء سؤال لأحد الصحافيين الأميركيين: هذه قوة المرأة وتابع قائلا: إنني أعرف ذلك من تجربتي الخاصة. وكان شرودر يشير هنا إلى الدور الذي تقوم به زوجته دوريس كوبف في تقديم النصح له في المنزل.
حرص شرودر أن يبقى باسما طيلة ظهوره أمام الصحافيين مع رايس ليوحي أنه عاد الانفراج للعلاقات بين برلين وواشنطن على رغم عدم تراجع ألمانيا عن موقفها المعروف تجاه حرب العراق والذي تعرفه واشنطن جيدا وأهم أسسه عدم إرسال جنود ألمان إلى العراق. لكن ليس معنى هذا أن ألمانيا تقف مكتوفة اليدين حيال المجريات في العراق.
قال شرودر إن بلاده ستواصل الدعم الذي تقدمه لعملية إعادة تعمير العراق والذي يتمثل في برامج تدريب قوات الشرطة العراقية وأعضاء في القوات المسلحة العراقية على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة. وأشار شرودر إلى إمكان زيادة هذا التعاون إذا طلب من ألمانيا ذلك. كما كشف شرودر عن عزم بلاده المساعدة في نشر الديمقراطية ووضع دستور جديد بغض النظر عن موقف ألمانيا المعروف تجاه الحرب.
وقال شرودر ما سيزعج الرئيس الأميركي سماعه: لا نعتزم تعديل المساهمة التي نقوم فيها في أفغانستان. وكان شرودر يعبر هنا عن رفضه التجاوب مع رغبة الولايات المتحدة بتوسيع المهمة التي تقوم بها القوات المسلحة الألمانية في الهندكوش وأن يجرى إدماجها مع عملية Enduring Freedom التي نشأت كنتيجة لحوادث الحادي عشر من سبتمبر .2001 ويشير المراقبون إلى أن بوش يسعى لتحميل قوات حفظ السلام الدولية في أفغانستان "إيساف" مسئولية أكبر في الحرب المناهضة للإرهاب لغرض سحب وحدات عسكرية أميركية من الهندكوش ونقلها إلى العراق الأمر الذي ترفضه برلين وفقا لمصادر صحافية موثوق بها.
بيد أن بوش أوحى لبرلين استعداده لفتح صفحة جديدة إلا أن العلاقة الشخصية بينه وبين المستشار شرودر مازالت مرشحة لأن تظل فاترة إذ لا يطيق أحدهما الآخر كما في السابق وهذا تطور نادر في تاريخ العلاقات الألمانية الأميركية. منذ سنوات توثقت العلاقة الشخصية بين شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى حد أن المستشار الألماني يدافع عن الرئيس الروسي ضد منتقديه في ألمانيا. منذ تولي جورج دبليو بوش منصبه في واشنطن في العام 2000 أدى التنافر الشخصي بين شرودر وبوش على التأثير على العلاقات السياسية بين برلين وواشنطن.
وكانت ألمانيا أبرز حليف لواشنطن في أوروبا بعد بريطانيا وفي الغضون أصبحت مع فرنسا من أبرز منتقدي سياسات واشنطن في أوروبا القديمة. واضطر شرودر لمعارضة حرب العراق لأن الشارع الألماني عبر عن رفضه لها وكافأه بإعادة انتخابه لولاية ثانية لأنه تحدى بوش الذي ساهم في تغيير نظرة الألمان للولايات المتحدة التي لم تعد بلدا نموذجيا وأصبحوا يفضلون التنصل منها. لم تعد ألمانيا بعد حرب العراق مهمة للأميركيين مثل بريطانيا و"إسرائيل" بينما أصبحت السياسة الخارجية الألمانية تنشط أكثر في إطار الاتحاد الأوروبي الذي أصبح أهم من واشنطن بالنسبة إلى برلين. وهذا ما تؤكده تصرفات فردية مثل عدم اهتمام واشنطن بالمشاركة في المؤتمر الأمني الذي ينعقد سنويا في مدينة ميونيخ ويجري خلاله التعبير عن عمق العلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة.
هذا المؤتمر الذي سينعقد في دورته القادمة في منتصف الشهر الجاري لن يشارك فيه أي عضو في إدارة بوش علامة على أن واشنطن لا تعير أهمية للعلاقات مع برلين. وهناك دافع آخر لعدم مشاركة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في المؤتمر الأمني.
فقد رفضت الحكومة الألمانية الاستجابة لطلب واشنطن بأن تتدخل لدى القضاء الألماني لغرض وقف التحقيقات بالدعوى التي رفعتها منظمة أميركية تطلق على نفسها "مركز حقوق الإنسان" أمام القضاء الألماني لأن القانون الألماني ينص على معاقبة مجرمي الحرب بغض النظر عن جنسيتهم وهذا القانون غير متوافر في الولايات المتحدة، واتهمت المنظمة الأميركية رامسفيلد والمدير السابق للسي آي إيه اجورج تينيت القائد العسكري السابق للقوات الأميركية في العراق وريكاردو سانشيز بمسئولية تعذيب معتقلين عراقيين في سجن أبو غريب. وهذه أول مرة يقوم المدعي العام الفيدرالي يتسلم ملف دعوى مرفوعة ضد مسئولين أميركيين كبار يواجهون تهمة ارتكاب جرائم حرب الأمر الذي يعكس التغيير الذي طرأ على العلاقات الألمانية الأميركية منذ تسلم بوش الصغير منصبه في البيت الأبيض
العدد 888 - الأربعاء 09 فبراير 2005م الموافق 29 ذي الحجة 1425هـ