أميركا إذا تعتبر أن هناك فرصة تاريخية للدفاع عن دورها "موقعها" المهدد في المستقبل. وبالتالي فهي تلجأ للهجوم كأفضل وسيلة للدفاع عن مصالحها النفطية الأمنية وحليفها الإسرائيلي من خلال سحب الوكالات الاقليمية من الدول الصديقة تقليديا والاعتماد على قواتها مباشرة في إدارة اللعبة السياسية. فواشنطن كما يبدو فقدت ثقتها بحلفاء أمس وبدأت تشعر أن الدول الاقليمية ضعيفة أو على الأقل باتت غير قادرة على الدفاع عن النفس وحماية المصالح الأميركية في المنطقة.
التورط الأميركي في المنطقة عسكريا ليس سببه محاولة إصلاح الدول وتحديثها وتنويرها، وإنما هو بداية سحب الثقة من أنظمة ضعيفة وخائفة من شعوبها وغير قادرة وليست مستعدة لمشاركة أهلها في صنع القرار السياسي.
هذه الصورة العامة تفرض إعادة طرح السؤال: هل المنطقة مقبلة على حركة إصلاح شاملة أم حرب دمار شاملة؟
الولايات المتحدة بطبيعة الحال لن تقول أو تعلن أنها جاءت إلى المنطقة لتقويض دول "الشرق الأوسط". فهذا الكلام يعتبر دبلوماسيا من بديهيات الغباء. صحيح أن الإدارة غبية ولكنها ليست غبية إلى حد الإعلان عن أهدافها الحقيقية. فالجنرال عادة لا يعلن خططه العسكرية حتى لو أعلن الحرب. فإعلان الحرب شيء وكشف المخططات العسكرية مسألة أخرى.
أميركا ببساطة أعلنت الحرب على المنطقة العربية - والإسلامية مستفيدة من ضربة 11 سبتمبر/ أيلول .2001 فهي حددت أهدافها الاستراتيجية ووضعت سلسلة من الخطط العسكرية تريد بها تنفيذ أكبر قدر من السيناريوهات وفي أسرع وقت وقبل تشكل مراكز نفوذ دولية في العقد المقبل تنافس واشنطن على زعامتها العالمية. إعلان الحرب ليس بحاجة إلى تأكيد ومن لم يتأكد حتى الآن فمن الصعب اقناعه بعد كل الذي حصل في المنطقة من افغانستان إلى دارفور مرورا بالعراق وفلسطين. ما هو بحاجة إلى تأكيد هو توضيح مسارات الحروب والسياقات العسكرية "خطط الجنرال السرية" التي لم يكشف عنها ولن يكشف عنها إلا بعد وقوعها.
عملية الكشف ليست ذكية ولن تقدم الإدارة الأميركية على هذا الأمر. والذكاء السياسي "أو قلة الغباء" تفرض طرح قضايا للتضليل تشير إلى عكس التقويض، وهذا ما تطلق عليه الولايات المتحدة حركة إصلاح "الشرق الأوسط" الكبير أو الصغير. ولكن الواضح من المستور أن واشنطن تعطي أحيانا اشارات سريعة عن أربع دول مركزية في المنطقة، وأحيانا خمس. فأميركا تركز دائما على إيران وسورية والسودان وتلمح أحيانا لمصر والسعودية. إلا أن المرجح في الوقت الحاضر أن تركز واشنطن هجماتها على إيران "الملف النووي وغيره" وبعدها سورية "لبنان وفلسطين". وبعدها تأتي الملفات الأخرى غير المعلنة ولكنها في النهاية مترابطة مع بعضها بعضا.
الإصلاح إذا ليس الهدف. فالولايات المتحدة تدرك أن تصحيح المنطقة يحتاج إلى وقت طويل والديمقراطية ليست واردة في بلدان لاتزال تمر في فترة علاقات اجتماع ما قبل الدولة... والتصويت في النهاية لن يكون في صالح الأفكار "النموذج" الأميركية لأن الناس تختار جماعاتها وقياداتها ولن تصوت مهما كانت الكلفة لبوش وتشيني ورامسفيلد. إصلاح المنطقة خدعة سياسية أميركية. وحتى لو كانت واشنطن صادقة في نواياها "والصدق مع هكذا إدارة ليس واردا" فإن الأمر يحتاج إلى 30 سنة من التغيير والتعديل والتطوير والتحديث. وأميركا في سباق مع الزمن وإذا خسرت فرصتها التاريخية فإن هناك تشكلات دولية جديدة منافسة وبديلة عنها.
هذه الظروف الدولية الضاغطة تجعل من الصعب على الإدارة الأميركية انتظار الأنظمة "أو الدول العربية" فترة 30 سنة بينما مدة رئاسة جورج بوش لا تزيد على 4 سنوات، هذا إذا اضفنا السنة الأخيرة "انتخابات" إلى استراتيجية الهجوم "الدفاعية".
الإصلاح مسألة طويلة والديمقراطية موضوع معقد والتحديث لا يتم في سنوات ثلاث... إذا التقويض. تقويض دول "الشرق الأوسط" هو المرجح من هذه الحركة الدبلوماسية "العسكرية" الأميركية في السنوات المقبلة. فالتقويض أسهل وأسرع وهو يضمن مصالح النفط وأمن "إسرائيل" إلى فترة طويلة في حال أعيد تشكيل خريطة "الشرق الأوسط".
لا شك في أن هناك موانع كثيرة تعطل إمكانات تخفيف طموحات الإدارة الأميركية منها انفلات الوضع العام وانقلابه عليها ومنها ايضا توازن المصالح الدولية. فالسيناريوهات لا تنجح دائما وربما هناك عواقب غير منظورة لا يمكن تحديد حجمها من الآن. فليس المهم ان نقرر اليوم ما نفعله لان الاهم ان نعرف ماذا سيحصل غدا. التقويض سهل أما احتواء تداعياته فهو الأمر الصعب في معادلة "الشرق الأوسط الجديد"
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 888 - الأربعاء 09 فبراير 2005م الموافق 29 ذي الحجة 1425هـ