من دون موعد ومن دون سابق معرفة قابلت الطيب صالح، كان خارجا من إحدى البرادات الكبيرة بصحبة أخيه. للوهلة الأولى لم اصدق أن هذا هو الطيب صالح. غير أني تأكدت بعدها بلحظات أنه هو الطيب صالح صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" و"مريود بندر شاه" و"عرس الزين".
الطيب صالح كان يبدو إنسانا عاديا للغاية، يلبس ثيابا عادية كما يلبسها الناس ويترك شعر رأسه كما هو دون تمشيط ويعلك علكة ويشاهد ويلاحظ الناس حواليه. وإذا اقتربت منه وجدته إنسانا لا يفصلك عنه لون ولا محيا ولا عبارة ولا حاجز من الكبر يخوله النظر إلى الناس نظرة عابرة.
قابلت الطيب صالح وكنت في غاية السعادة أن أجده لا يشبه أيا من أبطال رواياته فلا هو بالرجل المغرور المتكبر الذي ينظر إلى الناس نظرا شزرا ويهيم في حب نفسه حبا جما كما كان بطله في موسم الهجرة الى الشمال "سعيد" ولا هو مريود العجوز الذي يفرض سطوته وسلطانه ولا "مريود" اليافع الذي يظن أنه كل شيء ولا هو الزين الفقير المسكين، وانما هو الطيب صالح الرجل الذي صنع للسودان اسما عظيما يطاول السماء ومع ذلك ظل نفسا نقية تعيش مع الناس من دون كبر أو غرور.
هل يبدو الطيب صالح بدعا في ذلك بين الأدباء والشعراء؟ ربما يجد الكثيرون في نفسية الطيب وسماحته صورة نادرة، فالقراء يتكلمون كثيرا عن صلف وغرور الكتاب وعن تكبرهم الذي لا يسمح لهم حتى بشبه ابتسامة لقرائهم، غير أن هناك وجهة نظر أخرى في الموضوع، إذ إن هناك صنفين من الكتاب صنف لا تستهلكه الكتابة فهو يعيش الحياة كما يهوى ويلتقي بالناس في كل مكان ويكتب متى يشاء. وصنف تتغلب عليه ملكة الكتابة فلا يشعر بوجوده الا من خلالها فهو لا يستطيع التخلي عنها ولو للحظة فيشعر بأنه خان كتابته حين يمنح الناس جزءا من وقته على حساب كتابته والطيب صالح على رأس أولئك الكتاب الذين يعيشون الحياة بطولها وعرضها فيكتب متى ما شاء الكتابة
العدد 887 - الثلثاء 08 فبراير 2005م الموافق 28 ذي الحجة 1425هـ