لا يبدو المشهد مألوفا في المملكة العربية السعودية هذه الأيام، وكل من تعود على زيارة المملكة في الأعوام الماضية سيلاحظ ذلك. ثمة تغيرات جوهرية - لا تخطئها عين - تحدث هناك يوميا، فقبل سنوات كان الحديث عن التغيير أو المشاركة الشعبية أو قضايا مأسسة المجتمع من الموضوعات الحساسة التي لا تجد من يقبل الخوض فيها، أو الحديث بشأنها إلا من وراء حجاب، وأيا كان نوع الناس الذين فضلوا التريث والحديث من وراء الأستار، وبصوت خافت لا يكاد يسمعه أحد، فإن هؤلاء وغيرهم كثير قد باتوا اليوم يتحدثون بصراحة أكبر وحذر أقل، خصوصا بعد أن أصبحت الانتخابات البلدية السعودية حقيقة وليست أمنيات.
كثيرون شككوا في التوجهات الرسمية السعودية، وكثيرون راهنوا على حدوث انتكاسات ونكوص عن التجربة، لكن كل هذه التشكيكات أصبحت أضغاث أحلام، لكن الواقع المستجد على الأرض يفرز مفردات ومعاني جديدة يتم تداولها في المملكة العربية السعودية اليوم لأول مرة على صدور الصحف والمجلات، وفي البرامج الإذاعية والتلفزيونية بطرق غير مسبوقة وغير معروفة لدى المواطنين من قبل.
حين تدير مؤشر المذياع على واحدة من المحطات الإذاعية السعودية التي لم نكن نسمع عنها إلا من خلال المحطات المخصصة للقرآن الكريم، تسمع لغة مختلفة، لغة لم تألفها أذناك من قبل، تحرك مؤشر المذياع مرات عدة لتتأكد أنك لم تخطئ المحطة، فتتأكد أنها هي السعودية فعلا، تكتشف حينها أن هناك تغييرا ما يحدث لأول مرة، وحين تتنقل بين أقنية المحطات التلفزيونية الفضائية الكثيرة، وتتوقف عند إحدى الفضائيات السعودية، تشاهد وتسمع حوارا لم تعتد مشاهدته في هذه القنوات. أحد المسئولين السعوديين يتلقى الأسئلة المباشرة من المواطنين الشغوفين بمعرفة ما يجري، ثم لا يجد غضاضة ولا حرجا في الإجابة عليها بكل رحابة صدر وأناة وصبر وتواضع، عندها تصبح الأمور أكثر من واضحة، فهناك قرار بالسير نحو التغيير وفتح الباب للمشاركة الشعبية.
من هنا يجب أن يبدأ المهتمون بالشأن الخليجي عموما والشأن السعودي خصوصا، إعادة قراءة المشهد في المنطقة، ذلك أن الأمور تسير باتجاه تعزيز المشاركة الشعبية بطريقة لم تكن متوقعة. وبعيدا عن الخوض في التفاصيل العامة لحمى الانتخابات هنا أو هناك، يجب أن نلاحظ أن هذه الحمى الجميلة والصحية قد أصبحت تغزو المنطقة العربية برمتها، حتى صار الحديث عنها متصلا، فلا تكاد عملية انتخابية في بلاد عربية تكتمل حتى تبدأ ترتيبات انتخابية جديدة في بلاد عربية أخرى، ويكفي أن نشاهد ما يحدث في العراق الآن، وما حدث قبل مدة في كل من فلسطين ولبنان والأردن والجزائر والبحرين وقطر واليمن وتونس، ثم نعرج على ما يحدث هذه الأيام في المملكة العربية السعودية، لنعرف أن الأمر لم يعد مجرد لعبة أو عملية تجميل أو ترقيع للأنظمة.
لكن هذه الظاهرة في نسختها السعودية تعتبر من أهم الاستحقاقات التي تحتاج إلى نقاش مستفيض حتى تتغير الصورة، ذلك أن كل الخطوات الإيجابية التي تقوم بها الجهات الرسمية بحاجة إلى تشجيع وتجاوب، وقد آن لنا أن نتوقف عن القول إن الأنظمة والحكومات تقوم بواجبها وأنها غير ذات فضل في تبني النظريات واتخاذ الخطوات التي تعمق من المشاركة الشعبية، ليس لأن ذلك مجاف للحقيقة فحسب، بل إن فيه حيفا وظلما كبيرين، ويحتوي على كثير من السطحية وتبسيط الأمور.
وبالعودة لما يجري في المملكة العربية السعودية، فإن من المهم سوق بعض الحقائق والأرقام التي توضح خلفيات المشهد حتى تكون الصورة واضحة أمام القراء الأعزاء، لذلك فإن على المهتمين بمعرفة قصة الانتخابات البلدية السعودية أن يعودوا أكثر من 28 سنة للوراء، ليكتشفوا أن قانون المجالس البلدية السعودية قد تم إقراره في العام 1977 "1397 هـ"، وعليهم أيضا أن يعرفوا بأن هذه السنوات لم تغير من القانون شيئا، فبقي على حاله حتى قررت الحكومة السعودية تفعيله دون وجود مطالبات جادة للعمل به طوال هذه الأعوام. من جهة أخرى فإن التقسيم البلدي الذي تجرى الانتخابات البلدية بموجبه، والذي يجعل من المملكة 178 مجلسا بلديا هو الآخر نظام تم إقراره منذ الفترة نفسها.
إن الاستثناء الوحيد الذي حصل بالنسبة للمجالس البلدية، يمس منطقة القطيف وما حولها، إذ بادر وفد من وجهاء هذه المناطق إلى مخاطبة ولي العهد نائب رئيس الوزراء ورئيس الحرس الوطني الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وعرضوا أمامه الخصوصية التي تتمتع بها المنطقة وطالبوا بفرز المجلس البلدي لمنطقة القطيف عن منطقة حاضرة الدمام التي تضم كلا من الدمام والخبر والثقبة والظهران، فكان أن استجيب لمطلبهم بكل هدوء وتفهم.
إن ذلك يدل على أن الحكومات والأنظمة ليست على الدوام متعجرفة وقاسية القلب والقرارات، بل إن هناك من الأساليب ما يمكن توظيفه والاستفادة منه لتصحيح الأوضاع الخاطئة أو القضايا المهملة، وقد أصبح عدد المجالس البلدية السعودية 179 موزعة على المناطق التي تتكون منها المملكة إداريا والبالغ عددها 13 منطقة، ومن اللافت للنظر أن المملكة قد عمدت إلى الاستعانة بمنظمة الأمم المتحدة لمساعدتها في اختيار النظام الانتخابي المناسب، باعتبار أنها تجري انتخابات عامة لأول مرة. وعلى رغم أن المجالس البلدية كانت موجودة أصلا وبشكل منتخب بالكامل منذ أكثر من 40 سنة أبان عهد الملك سعود بن عبدالعزيز وفي أوائل عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمهم الله جميعا، وخصوصا في مدينة جدة والعاصمة المقدسة وبعض المدن السعودية الأخرى، فإن المشرفين على الانتخابات العامة هذه المرة اختاروا نظاما آخر.
لقد وقع الاختيار على نظام المناصفة بين المنتخب والمعين للمجالس البلدية، وهو نظام متبع في عدد من الدول العربية والعالمية، ومن بين الدول العربية التي تأخذ به الأردن، ويبدو أن اختيار هذا النظام قد جاء بهدف توطين تجربة العمل البلدي وتعويد الناس على التعاطي الإيجابي معها بهدف تطويرها شيئا فشيئا، تخوفا من الفشل والإحباط الذي قد يصيب التجربة إن هي تعرضت لهزات عنيفة قد تعصف بها كما حدث في تجربة المجالس البلدية الأولى.
وعلى رغم أنني من المنادين بتعميم تجارب المجالس البلدية المنتخبة بالكامل، والمعززة بصلاحيات كاملة تصل إلى مرحلة الحكم المحلي، إلا أنني أعتقد أن الحكومة السعودية قد وفقت كثيرا في اللجوء إلى خيار المناصفة، لكن ما يعاب على هذا الخيار أنه حرم المرأة السعودية من المشاركة في التجربة البلدية، وفي ظني المتواضع فإن المجتمع السعودي لم يكن في كامل الاستعداد لمشاركة المرأة في انتخابات بلدية عامة، بل إن الإقبال الضعيف الذي حظيت به هذه الانتخابات يدلل على أن المجتمع بصورة عامة لم يتعامل مع الانتخابات كما يجب.
وللعلم فإن سكان المملكة العربية السعودية اليوم يقدر بنحو 20 مليون نسمة، تم استبعاد نصفهم المكون من النساء بصورة مؤقتة "قانون الانتخاب لا ينص على حرمان المرأة من المشاركة الكاملة في الانتخابات"، ثم تم استبعاد من هم أقل من 21 عاما، وهو ما يقدر بنصف النصف المتبقي، لذلك فإن العدد المتاح له المشاركة في الانتخابات البلدية يصل إلى 5 ملايين نسمة تقريبا وهو ما يشكل ربع السكان. وقد سعت اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات البلدية لزيادة حجم المشاركة فيها من خلال اللجوء إلى الكثير من الوسائل الإعلامية والدعائية والتحريضية، لكن جهودها لم تكلل بالنجاح المطلوب، فالذين سجلوا في المرحلة الأولى للانتخابات والتي شملت الرياض وما حولها لم يتجاوز 160 ألف ناخب، على رغم أن عدد المجالس البلدية في هذه المرحلة يصل 38 مجلسا، بينما يتجاوز عدد من يحق لهم التسجيل كناخبين مليون ونصف المليون مواطن.
وإذا كانت الرياض على موعد مع الحصاد الانتخابي يوم الخميس الأول من محرم 1426 الموافق10 فبراير/ شباط ،2005 في مشهد سيظل في الذاكرة لأجيال عدة، فإن المرحلة الثانية من الانتخابات التي تشمل المنطقة الشرقية وما حولها، قد فرغت للتو من عملية التسجيل، إذ بلغ عدد المواطنين الذين سجلوا بها 200 ألف ناخب فقط، من بين عدد لا يقل عن المليون ونصف المليون مواطن أيضا، كما اكتمل يوم الخميس 3 فبراير تسجيل المرشحين في هذه المرحلة، ويتوقع أن تكون القوائم قد أعلنت مع نشر هذا المقال، في حين تم تحديد يوم 22 محرم الموافق 3 مارس/ آذار لإجراء الانتخابات، ولن تختلف الصورة كثيرا في المرحلة الثالثة من الانتخابات البلدية التي تشمل المنطقة الغربية وما حولها، إذ لا يتوقع أن يزيد عدد الناخبين عن 200 ألف أيضا، وبذلك فإن عدد المواطنين المتوقع تسجيلهم للانتخابات البلدية في المراحل الثلاث لن يتجاوز 600 ألف ناخب، وهو ما يساوي 15 في المئة تقريبا من عدد من يحق لهم المشاركة في الانتخابات.
إن هذه النسبة المتدنية جدا للمشاركة في الانتخابات البلدية تشير بوضوح إلى ضعف ثقافة المشاركة الشعبية في المملكة، وهو أمر يحتاج إلى جهود كبيرة لتغييره ناحية تعميق الوعي بأهمية الانتخابات العامة، لذلك فإن أمام دعاة الإصلاح على الجانبين الرسمي والأهلي طريق طويل غير معبد بالورد والياسمين، هم بحاجة إلى نفس قوي وخبرة متميزة وجهود عظيمة للوصول إلى مراحل مناسبة منه في أوقات قياسية.
إن أمام المشاركة الشعبية التي لاحت أول بشائرها بالانتخابات البلدية، فرص كبيرة لكي تنمو وتترعرع، وإذا كانت نسبة المسجلين للمشاركة في هذه التجربة توحي بعدم الاكتراث وقلة الوعي بأهميتها، فليس ذلك المقياس الوحيد الذي يجب أن ينظر إليه لتقييم التجربة، فلقد كان الإقبال للترشح كبيرا جدا بلغ حدا غير متوقع، ففي حين كان عدد الناخبين المسجلين في الرياض 86 ألف ناخب، أي بمتوسط 12 ألف ناخب تقريبا لكل دائرة من الدوائر السبع التي تتركز في الرياض، فإن عدد الذين ترشحوا للتنافس على هذه الدوائر قد بلغ 698 مرشحا، دخل منهم حلبة المنافسة الفعلية 646 مرشحا، بمتوسط 100 مرشح لكل دائرة تقريبا.
ومن الواضح أن مثال الرياض سيتكرر في المدن السعودية الكبرى الأخرى، ومن دون شك فإن ذلك دليل واضح على اهتمام النخب بتشجيع المشاركة الشعبية، وهو ما يعتبر نجاحا لم يكن متوقعا، كما أن من المهم الإشارة إلى أن الترتيبات الفنية والإجراءات والأنظمة التي أنجزتها اللجنة العليا للانتخابات البلدية، في التجربة الأولى تعتبر إنجازا رائعا بكل المقاييس، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار المساحات الشاسعة التي تتكون منها المملكة، والحاجة إلى تدريب وإعداد كبير من الكوادر القادرة على إدارة عملية معقدة بهذا الحجم.
لقد نجح السعوديون في الامتحان، وهم قادرون على الاستفادة من هذا النجاح في مجالات أخرى، وقد باشروا في ذلك فعلا، إذ أعلن عن التوجه لإجراء انتخابات طلابية في الجامعات، بالإضافة إلى انتخابات على صعيد عمداء وإدارات الكليات والمعاهد والجامعات السعودية، وبكل تأكيد فإن نجاح تجربة الانتخابات البلدية سينعكس إيجابا على أوضاع مجلس الشورى الذي بدأ قبل سنوات بعدد 30 عضوا شورويا، ثم ارتفع إلى 60 عضوا، ثم إلى 90 عضوا، ثم إلى 120 عضوا، وهناك نقاشات جدية لرفعه إلى 150 عضوا، ولن تمر الأيام والشهور إلا ومجلس الشورى يضم أعضاء منتخبين وفق الانتخابات العامة المباشرة.
إنه التطور الطبيعي يحدث ليس في المملكة العربية السعودية فحسب، لكنها رياح التغيير هبت على المنطقة، وهي رياح قوية ومعدية، فإذا تعامل الجميع معها بروح إيجابية وتم توظيفها لصالح ترسيخ المشاركة الشعبية وبناء مؤسسات المجتمع المدني، فإن أكلها ستكون طيبة وهانئة، وإذا تم التعامل معها بروح من العصبية والفوضى التي تؤدي إلى حرق المراحل وتمزيق الخطوط وتقطيع الأوصال فإنها ستنعكس سلبا لا يعرف أحد منا إلى أين يقود.
لقد انطلقت قافلة التغيير في المملكة العربية السعودية، وهي قافلة تقاد على هدي وبصيرة، فلنساهم جميعا بدعمها ومؤازرتها، لأن نجاحها نجاح لنا جميعا، فانتظروا السعوديين... انهم قادمون بقوة
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 887 - الثلثاء 08 فبراير 2005م الموافق 28 ذي الحجة 1425هـ