اليوم يلتقي للمرة الأولى بعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الجانب الفلسطيني مع الجانب الإسرائيلي بمباركة مصرية، وبحضور أردني، من أجل النظر في القضية القديمة المتجددة وهي فلسطين. ولا يبدو أن وقتا طويلا مر على وفاة الرئيس المرحوم عرفات، ولكن الحوادث السياسية تتالت بسرعة ووصلت إلى شرم الشيخ مرة أخرى، وربما أخيرة، وكأن الوفاة السياسية قد حدثت قبل ذلك بوقت طويل.
في أدبيات التحرر الوطني هناك قاعدة لا يستطيع الفلسطينيون أو غيرهم الفكاك منها، وهي البحث عن حليف في الجانب الآخر، في جانب العدو.
الإسرائيليون حاولوا ويحاولون ذلك منذ زمن طويل، بعض المرات القليلة أفلحوا، ومرات كثيرة فشلوا، وكذلك الفلسطينيون. الرئيس الفلسطيني الجديد محمود عباس "أبومازن" وضع أنظاره منذ البداية على شريك أو شركاء في المعسكر الإسرائيلي. فعل ذلك عندما أعلن ولم يخف توجهاته بنزع العسكرة عن الانتفاضة، وبتوحيد قوى الأمن، وتنظيم السلطة وفصل قواها عن بعضها، بهذه الشعارات خاض محمود عباس الانتخابات التي أوصلته إلى الزعامة، بنسبة معقولة، بل متواضعة في بورصة انتخابات الرئاسات العربية. وكانت عينه على الجانب الإسرائيلي ومن خلفه الدولي، أكثر من استرضاء شعارات الشارع، وهي صفة القيادة لا الزعامة.
البحث عن شريك هو الهدف، ويبدو أن الصدف خدمت الجانبين، فوفاة الرئيس عرفات من جهة الذي لم يكن ملاكا ولا شيطانا كما يحب مناصروه أو مخالفوه وصفه، قدمت فرصة للطرف الإسرائيلي، كما أن دخول شمعون بيريز وحزب العمل في الحكومة الإسرائيلية، قدمت فرصة مقابلة للطرف الفلسطيني، فأصبحت هناك فرص متساوية للبحث عن شريك ذي صدقية معقولة للتوجه إلى الأمام في هذه القضية المعقدة.
يبقى الأمر في جناح أبومازن أكثر تعقيدا، فهو على يمينه قوتان منظمتان، إذا تجاوزنا مؤقتا منغصات بعض القوى الفلسطينية الأخرى، والقوتان هما حماس والجهاد.
أبومازن من الزعامات السياسية العربية التي تستوحي الدين ولا تقبل مزجه بالسياسة، وهو موقف عقلاني ومفيد، لذلك فهو يرى في القوى السياسية الإسلامية، سواء الجهاد أو حماس، يرى فيهما السياسي، وليس الديني، وبما انه ذا حس سياسي أوصله إلى قناعة ان العنف لم يعد مفيدا للقضية الفلسطينية، لأنه ببساطة يقدم الذريعة المعقولة داخليا في "إسرائيل" ودوليا للانصراف عن الحقوق الفلسطينية، فإن الدعوة إلى العنف تحت أي شعار لم تعد جاذبة للكثير من الفلسطينيين، بدليل نجاح أبومازن في الانتخابات التي أعلن سلفا برنامجه ضد العنف فيها، فلم يعد صوت الشعارات الصاعقة بأقوى من صوت صناديق الانتخاب.
لقد عرف الجناح الفلسطيني المفاوض، ومحمود عباس ما هو إلا تعبير عنه، إن المكسب السياسي الرئيسي لنيل الحقوق الفلسطينية "المتواضعة" وهي دولة على أرض 1967 عاصمتها القدس الشرقية، مع حقوق معقولة للاجئين، هو في كسب معسكر السلام الإسرائيلي أولا، وفي التعاطف الدولي ثانيا. القوة قد تكون مفيدة إلى لفت النظر في فترة من الفترات، ولكن نتائجها صارت عكسية منذ مطلع القرن الجديد وخصوصا بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
كسب الجناح السلمي في "إسرائيل" يحتاج إلى صدقية في القول والعمل، ويبدو أن أبومازن من ذلك النوع من الرجال الذي يقول في العلن ما يضمره في السر، مع القليل من زلات اللسان التي لوحظت أكثر من مرة خلال الأشهر الأخيرة، وهي في تقدير كثيرين ناتجة من وطأة اللغة القديمة التي سادت أكثر منها قناعة ثابتة لمحمود عباس ومناصروه في معسكر الاعتدال الفلسطيني.
موقف الجناح الفلسطيني المعتدل هو بمثابة عودة الروح للمعسكر الإسرائيلي المطالب بالسلام، فكلما زاد الاعتدال وتغلبت الحكمة الموضوعية في الجانب الفلسطيني، كلما زاد عدد ونشاط المعسكر الداعي للسلام في "إسرائيل".
تستطيع حماس أو الجهاد أو أي طرف فلسطيني من التنظيمات الكثيرة أن يخرب هذه المسيرة، بإرسال مجموعة من الانتحاريين أو باستخدام طرق مختلفة لإزاحة مسيرة المحادثات عن طريقها، التي لا شك ستكون طويلة ومضنية، إلا أن مثل هذا الفعل السلبي لن يقدم للقضية ولا لأهلها إلا الألم والعجز، وفوقه الانعزال عن مسيرة العالم.
من هنا يبدو الموقف غير الواضح لمجموعات المقاومة ذات الطابع الإسلامي، فهي لم تنخرط في انتخابات رأس السلطة في يناير/ كانون الثاني الماضي، ثم أقدمت على الانخراط وبقوة في انتخابات مجالس البلديات، وهي لم تعلن موافقة صريحة على وقف إطلاق النار، وتحدث الناطقون باسمها بأكثر من رأي على أكثر من وسيلة إعلامية، ولكنها في الوقت نفسه بدت ظاهريا ملتزمة بضبط النفس، إن لم يكن وقف إطلاق النار باسمه. هذا الموقف يدل على إرباك أكثر منه موقفا عقلانيا حتى من منظور هذه المنظمات.
يواجه إذا محمود عباس ومناصروه اليوم في شرم الشيخ تركة ثقيلة، وهي مواجهة ستقرر مصير الصراع لسنوات طويلة مقبلة، إما أن يكون هناك انفراج نسبي يتبعه انفراج واسع في المدى القصير، أو عودة إلى المربع رقم واحد ولكن بشكل أكثر ضراوة من قبل.
عباس يواجه شبح عرفات، الذي كان يتهم بعد كل اجتماع من هذا النوع انه يقول شيئا في الحجرات المقفلة وآخر على العلن كسبا للشعبية، محمود عباس كما يروج مناصروه شخص آخر، يقول ما يؤمن به. فإن فعل، فإن ذلك مكسب للقضية تقدمها أميالا إلى الأمام. وليس أضر على القضية الفلسطينية في هذه المرحلة من الوقوع في "الأنعم" المشهورة، والتي أصبحت معروفة على نطاق واسع في المعسكر العربي أو الإسرائيلي أو الغربي، فكرة المراوحة وعدم الوضوح والمناورة.
يمكن البناء على ما عرف بمبادرة جنيف التي التأمت قبل سنوات بين النشطاء الفلسطينيين والإسرائيليين، ويمكن البناء أيضا على رغبه في الشارع الإسرائيلي جراء المعاناة الأمنية والاقتصادية، ولكن الأهم هو البناء على صدقية واضحة، وعدم تفويت الفرص.
من أهم ما فوت من فرص ما عرضه بشجاعة الرئيس المصري حسني مبارك في لقاء تلفزيوني أخيرا، ومع الأسف لم يلق ما يستحق من إعلام، فقد تحدث عن موقف لابد من استدعائه، وهو رغبة إسحاق رابين الملحة في السلام مع سورية وعرضه الواضح لمبادلة الأرض بالسلام. من حديث الرئيس وكان حديثا شجاعا، إن الفرصة لم تؤخذ بالجدية التي وجب أخذها به، وفاتت تلك الفرصة التي قدمت من شخص يشهد الرئيس مبارك انه كان يحقق ما يوافق عليه.
محمود عباس في شرم الشيخ يواجه طموحات الكثير وشهوات الجميع، ولكن في الغالب ليس لدى هؤلاء رغبة في تحقيق شيء ملموس للشعب الفلسطيني، هو ومعاونوه يستطيعون اليوم أن يطلقوا عملية سلام شجاعة، ويفشلوا المناورات المضادة، أو أن يعيدوا الدائرة الجهنمية من جديد
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 887 - الثلثاء 08 فبراير 2005م الموافق 28 ذي الحجة 1425هـ