قبل سبع سنوات، صدرت واحدة من أجمل الأناشيد الإسلامية الشجية من أكبر بلد اسلامي يمتد على 33 ألف جزيرة، مستلقية في مياه المحيط الهندي. مجموعة من الصبيان والصبايا السمر، في مثل جمال الزهور، يقودها حداد علوي، والصغيرة سليس، يترنمون بأبيات مثل الأريج، ويعبرون عن الاشتياق إلى طيبة، مدينة رسول الله "ص".
العام الماضي في بيروت على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تبادر "المنار" إلى إعادة إنتاج هذه الأنشودة الجميلة، بباقة أخرى من المنشدين اللبنانيين الصغار، مع دخول بعض التعبيرات الإضافية.
وفي فترة مقاربة تتلقف الخيط قناة الصغار "سبيس تون"، وتعيد إنتاجها مرة أخرى، بطاقم من السوريين الصغار الشقر، وبتمويل خليجي، وتدخل عليها كلمات وتعبيرات أخرى، عن الشوق العارم لزيارة صاحب الرسالة في مثواه الأخير بمدينته الزاهرة.
ثلاث نسخ، استطاعت أن تدخل البيوت وتغزو القلوب، في المغرب والمشرق، حتى باتت نشيدا يصحو أطفالنا وينامون على سماعه وتكراره طوال النهار وزلفا من الليل.
لم تكن هذه الأنشودة قصيدة من الشعر البليغ، ولا كلماتها بالكلمات الفخمة الضخمة، بل إن بعض كلماتها أقرب للعامية أو اللغة المحكية، ولكنها دخلت القلوب من أوسع الأبواب، فما يخرج من القلب يدخل إلى القلب دون جواز سفر أو تأشيرة دخول.
كنا محتاجين في هذا الجو الخانق إلى ما يروح عن قلوبنا، وكان أطفالنا محتاجين هم الآخرين إلى ما يشنف أسماعهم ويشد انتباههم وسط كل هذا الإنتاج المبتذل الذي يجري تسويقه باسم الفن والأخ الأكبر والسوبر ستار، ليخرج لنا جيل من أبرز "محاسنه" الميوعة والرخاوة والصوت المتكسر الضعيف. مجموعة من "شبان التجارب" الذين ينامون حتى الساعة العاشرة صباحا، ويسهرون حتى الثانية بعد منتصف الليل يتعلمون نوتات الموسيقى وأغنيات الغرام، فهكذا يراد لشباب الأمة أن يسهروا في "طلب المعالي"!
في المقابل، يقف حداد علوي وسليس يرددان مع جوقتهما الهادئة مثل أسراب الحمام:
"ياطيبة يا طيبة... يادوا العيانا
اشتقنا لك والهوى نادانا"
ويرفعون أبصارهم نحو المثل العليا والقدوات الرفيعة:
"يا شباب الجنتين
جدكم صاحب القرآنا".
وما أحوج هذه الأمة المستباحة إلى مثل هذا النداء والاقتداء، في وقت تداعت فيه أعداؤها على محاربتها من كل جانب. ما أحوج هذه الامة إلى ما يوحدها ويجمع قلوب أبنائها، ويذكرها بصوت العقل، في وقت اختلطت فيه الأمور وادلهمت على الكثيرين، حتى أصبح الجهاد مقترنا بقتل الأبرياء وقطع الرؤوس، واستهداف المدنيين والاستهانة بسفك الدماء البريئة.
ما كان أحوجنا إلى صوت يدعونا إلى الأصل، ويردنا إلى المدينة التي تهنا عنها، وابتعدنا عن أهدافها ومبادئها وقيمها النبيلة.
ما كان أحوجنا إلى مجموعة من الصبايا والصبيات السمراوات، يقفن على ساحل جاكرتا، يذكروننا بالجانب الإنساني الرفيق في هذا الدين الذي أصبح عندنا كتلة متصلبة من التشنجات والممارسات والأفكار التي لا تقبل بوجود مسلم آخر غيرنا، وكأن الله لم يخلق الدنيا لأحد سوانا، وأن القرآن لا يفهمه أحد غيرنا، وأن الجنة محجوزة حصريا لنا ولأولادنا ولجيراننا من أبناء مذهبنا أو طائفتنا، أما أبناء المدن والمناطق الأخرى الذين تختلف سحناتهم قليلا عن سحناتنا فإن الجنة لا تتسع لهم.
سبع سنوات مرت، علوي حداد قد اكتهل، والصغير سليس شارفت على سن الزواج، ومازال صوتهما الشجي يتردد في أسماعنا، ونسمع صداه الصادق في "المنار" و"سبيس تون"، وهو ما نراهن عليه في نهوض هذه الأمة من كبوتها الراهنة، حين يتلقف الطفل اللبناني والسوري والخليجي والإفريقي نداء أخيهم الإندونيسي من على بعد أربعة آلاف كيلومتر، لتخرج لنا هذه النسخ الجميلة من أنشودة الوحدة الإسلامية التي لن تغيب. على ذلك نراهن، فما بعد هذا الليل البهيم الطويل في غزة وكابول وبغداد وشرم الشيخ... إلا فجر مجد يتسامى
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 887 - الثلثاء 08 فبراير 2005م الموافق 28 ذي الحجة 1425هـ