الواقعية السياسية هي التي جعلت العراقيين هذه المرة يحذرون من الوقوع في فخ العنف والمواجهة المسلحة مع الاحتلال. لقد جربوها أيام الانجليز وقدموا تضحيات كثيرة في ذلك لكنهم ساعة توزيع الغنائم وبعد دفع فاتورة المواجهة وجدوا أنفسهم خارج اطار السلطة واستمرت العزلة سنين طوال واصبح التاريخ يتقاذفهم يمنة ويسرى وعلى رغم كل التضحيات أصبحوا دائما في موقع التخوين وعليهم دائما أن يثبتوا وطنيتهم... حتى أصبحوا معزولين يعيشون طقوسهم داخل أطرهم الضيقة وأصبح من الواجب عليهم ان ينقادوا إلى المسلخ وهم يبتسمون لكن ما يميز الشخصية العراقية عن بقية العرب انهم اكتشفوا بعد طول معاناة انهم ذهبوا ضحية الخطابات الثورية التي راح يبيعها عليهم بعض التيارات التحررية، فحزب البعث لم يؤكل العروبة الا التشريد وضياع الثروات وتوزيعها هدايا على القنوات الاعلامية وعلى المثقفين العرب ممن راحوا يرقصون على وقع السمفونيات العفلقية. وقد تورط في حصار العراقيين كل العرب بمن فيهم الجامعة العربية. كان العراقيون يتمنون موقفا مؤازرا طيلة الحقب التي مروا بها فلم يجدوا ذلك.
اليوم فهموا الدرس ودخلوا اللعبة على رغم قساوة الأحكام التي تلقي عليهم من على شاشات القنوات الفضائية وعبر الصحف التي راحت اليوم تبيع العراقيين مبادئ الثورة وقيم التحرر. لا غرابة في ذلك، فبعد سقوط صدام توقف الكثير من الصحف العربية وخصوصا التي كانت تصدر في الغرب ولاشك ان لذلك وقعا كبيرا على قلوب كثير من النخب التي كانت تعتاش على حساب اموال الشعب العراقي.
السيد السيستاني فهم الدرس واستطاع ان يحرك الساحة العراقية بطريقة تخدم الشعب، فبعد المحاولات التي عملت على اخراج السيد مقتدى الصدر من خارج ايقاع البيت الوطني المجمع عليه من قبل البيت الاسلامي كي يصبح الكبش الجديد هو واتباعه في محرقة مع الاميركان عمل السيد السيستاني على اخراج الابن من المحرقة بطريقة جريئة وذكية وواعية وفعلا استطاع السيد السيستاني استيعاب السيد مقتدى الصدر الذي أخذه حماس الشباب الذي عادة ما يتأجج ويستعر أواره امام هياج الجمهور وطبعا كان للقنوات الفضائية ولبعض النخب العربية دور في توريط السيد الشاب في مواجهة أقوى دولة على مستوى العالم لم تستطع دولة بحجم الاتحاد السوفياتي مواجهتها وباتت القنوات تعمل على نفخ ظاهرة تمرد الشاب حتى بات مقتدى الصدر يخرج على الشاشة منذ الصباح الباكر حتى المساء في اليوم اكثر من 20 مرة. بعد ذلك اصيبت النخب العربية والقنوات العربية باحباط، فما عدنا نسمع شيئا عن السيد مقتدى. لا شك ان للسيد السيستاني دورا في ذلك ومساهمة كبرى في توعية التيار الصدري بأن القصة ليست قصة شعارات ونفخ عضلات ومسك ميكرفون... القصة تبدأ وماذا بعد ذلك؟ ما هي الثمار من صراع مسلح مواجه لأميركا، فأقل شيء هو سقوط بيوت الطين على أهلها ومزيد من الفقر والجوع وكثير من تسلم خطابات الشكر والثورة من قبل النخب الجالسين خلف الشاشات في فيللهم العاجية... القصة ماذا سيحصد هؤلاء الفقراء الذين أكلتهم الحروب طيلة السنوات الماضية من حرب ايران إلى حرب الكويت إلى الحصار إلى الحرب الاخيرة وهكذا... جماهير مقتدى الصدر تفاعلت في بداية الأمر لكنها اكتشفت أخيرا أن المواجهة المسلحة وسياسة كسر العظام لن تؤكلهم خبزا ولن تنعكس على مستوى حياتهم الاجتماعية وهناك قاعدة سيسيولوجية تتلخص في ان الجماهير لا تتفاعل مع أي خطاب حتى يتحقق شرطان: 1- ان تفهم الخطاب. 2- ان ترى للخطاب انعكاسا على مستوى معيشتها، اي يرفع من مستوى الانجازات ويحقق لها مصالح اقتصادية وسياسية. واكتشف الناس ذلك في ظل نجاح الانتخابات وهو بداية ان شاء الله لانتصارات جديدة لكل العراقيين في المرحلة المقبلة ومرحلة البناء، ومرحلة السلم اصعب بكثير من مرحلة المواجهة مع صدام، فالثانية لا تحتاج إلا إلى خطابات رنانة تختزل بلا او نعم، أما مرحلة البناء والدبلوماسية والتصحيح وإعادة الاعمار فهي تحتاج إلى كوادر وبرامج عمل ومشروعات وخطط وكفاءات وتوازن والخلط بين المرحلتين لاشك يسبب كارثة كبرى والخطأ فيها أشد خطرا من الخطأ الذي يحدث في صناعة خلطة كيماوية.
حزنت كثيرا للمقاطعة في العراق، لأن المقاطعة خطأ استراتيجي ورطوا فيه. عليهم قراءة التاريخ والتجارب فإن مقاطعة 5 ملايين ابيض في انتخابات جنوب افريقيا العام 1994 لم تمنع انتخاب الرئيس مانديلا أول رئيس اسود لبلاده كما ان مقاطعة ولايات الجنوب الاميركية لم تمنع الاميركان من انتخاب الرئيس ابراهام لنكولن. اذن مواقف السيستاني كان لها كل هذا التأثير على مجريات الحوادث في العراق في منعطفات خطيرة وهكذا هو من الحوزة إلى العالمية
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 886 - الإثنين 07 فبراير 2005م الموافق 27 ذي الحجة 1425هـ