ترافقت زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس لمنطقة "الشرق الأوسط" مع بدء أعمال قمة شرم الشيخ الرباعية في مصر. وقبل وصولها اطلقت رايس تصريحات يفهم منها أن واشنطن ستترك لأطراف المفاوضات حرية التوصل إلى اتفاقات فيما بينها، ولن تتدخل إلا وقت الحاجة أو حين يطلب منها أو إذا وجدت أن تدخلها يساعد على توصل الأطراف إلى تفاهمات أمنية وسياسية. فالوزيرة حاولت تقديم موقف الولايات المتحدة في سياق جديد ومحايد لتعطي صورة غير دقيقة عن سياسة انسحابية لا تريد الضغط على الأطراف - وتحديدا "إسرائيل" - لتقديم تنازلات ضرورية حتى يمكن التوصل إلى تفاهمات جزئية.
هذا التواضع مقصود والمبالغة فيه تعني ترك الحرية لحكومة شارون - بيريز في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة لمصلحة "إسرائيل". فالطرف الفلسطيني في المفاوضات لا يملك الكثير لتقديمه بينما الاحتلال الإسرائيلي يحتكر الكثير من الأوراق الضاغطة، وأميركا هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على اقناع تل أبيب بضرورة التنازل حتى يمكن التوصل إلى تفاهمات جزئية. وبما ان رايس أعلنت "الحياد" وقت الحاجة الفلسطينية إلى واشنطن فمعنى ذلك أن إدارة البيت الأبيض اعطت إشارة دعم خفية لسياسة حكومة الرأسين.
عدم التدخل هو نوع من التدخل المعكوس. فهو لا يعني أن أميركا انسحبت من المفاوضات وانما انتهجت سياسة تدخلية جديدة تحاول تطمين تل أبيب بأن الإدارة لن تضغط عليها ولن تمارس نفوذها التقليدي على "إسرائيل" لتقديم بعض الضمانات المعقولة للجانب الفلسطيني. وهذا الأمر يشير إلى أن الوعود التي تسربت من بعض الجهات الدبلوماسية عن وجود سياسة أميركية مختلفة في عهد بوش الثاني ليست دقيقة. فالانسحاب المصطنع في لحظة انعقاد المفاوضات يعزز الموقف الإسرائيلي المتصلب ويزيده تشنجا.
حتى لو أقدمت حكومة شارون - بيريز على تقديم بعض التنازلات من نوع الانسحاب من بعض المدن الفلسطينية واطلاق بعض السجناء وفتح بعض المعابر... فإن تلك الشكليات لا تساعد كثيرا على الانفراج الأمني مادامت تل أبيب تواصل هجماتها على الأراضي الفلسطينية، وتستطيع التذرع بردود الفعل على اعتداءاتها لإعادة احتلال المدن التي انسحبت منها واعتقال المزيد من الفلسطينيين. فالدولة العبرية تعتبر نفسها معفية من المواثيق الدولية والمعاهدات واتفاقات الأمم المتحدة ويحق لها ما لا يحق لغيرها.
المسألة إذا مسألة احتلال ومدى استعداد حكومة "إسرائيل" لتنفيذ التزاماتها الدولية والاتفاقات التي وقعتها مع الجانب الفلسطيني. وهذا ما يبدو غير وارد في الفترة الراهنة وهذا ما تدركه الإدارة الأميركية وعلى أساسه تصرفت رايس وأعلنت وقوفها على "الحياد". فالوقوف على "الحياد" هو في جانب من جوانبه محاولة غير مباشرة للضغط على الطرف الفلسطيني الذي لا يملك الجديد من الأوراق للتفاوض بشأنها مع "إسرائيل"، بينما تتحكم حكومة الرأسين بمختلف شروط اللعبة وعندها القدرة "والقوة العسكرية" لفرض شروطها من دون عقبات أو عراقيل.
إعلان رايس عن سياسة "محايدة" و"غير تدخلية" عشية بدء مفاوضات شرم الشيخ إشارة سلبية للطرف الفلسطيني وجرعة زائدة للطرف الإسرائيلي تعبر عن مدى دعم واشنطن لحسابات حكومة الرأسين وحساسيات مواقفها الداخلية في معادلة التوازن مع المجموعات الصهيونية العنصرية التي ترفض حتى مبدأ التفاهم أو الانسحابات الجزئية من أراض محتلة.
هذا من جانب. ومن جانب آخر أسقطت رايس في موقفها الذي أعلنته عشية بدء المفاوضات في شرم الشيخ كل المراهنات الفلسطينية - العربية من احتمال تغير السياسة الأميركية في ولاية بوش الثانية. فالمفاوضات الرباعية ستكون مجرد جلسات للقاء تعطي فيه "إسرائيل" ما يناسب مصالحها وحساسياتها الداخلية وتأخذ ما تبقى من الجانب الأضعف في المعادلة وهو الطرف الفلسطيني.
لاشك في أن إعلان "الحياد" أو "السياسة الانسحابية" أو البراءة من المسئولية كلها إشارات مخادعة لأنها لا تتناسب فعلا مع حجم الدور الأميركي الدولي وإمكانات واشنطن في ممارسة ضغوطها على "إسرائيل" إذا ارادت ذلك. فأميركا تتدخل في شئون موسكو وبدأت الآن تتحدث عن ضعف الديمقراطية في روسيا وتعطي الدروس لدول العالم في كيفية التفكير والتصرف، وحين يصل الموضوع إلى تل أبيب تتوقف فجأة عن تلك السياسة تاركة للأطراف حرية التفاوض والتفاهم. وهذا يعني في وجه من وجوه المسألة أن واشنطن اعطت تل أبيب إشارة خضراء للتحرك وفق المصالح التي تناسبها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 886 - الإثنين 07 فبراير 2005م الموافق 27 ذي الحجة 1425هـ