ماذا تريد وزيرة الخارجية الجديدة كوندليزا رايس من جولتها الدبلوماسية الأولى في أوروبا و"الشرق الأوسط"؟ اكتشاف "السر" يحتاج إلى وقت، إلا أن منطق الأمور يدفع نحو تحديد عناصره الباطنية على رغم ذاك القصف العشوائي الذي أثارته الوزيرة في تصريحاتها النارية والمضطربة. فالكلام العشوائي والمبهم حمل الكثير من الإشارات التي ترسم اتجاهات الاستراتيجية الأميركية المقبلة، ومنها الحديث عن خطوات نحو "الديمقراطية" و"الإصلاح" و"حرية الشعوب". فهذا الكلام العام يقال للتمويه والتعمية والتغطية على الأهداف الحقيقية.
الإدارة الأميركية تعلم أن "الإصلاح" حتى لو كانت جادة فيه يحتاج إلى سنوات وسنوات ولا يمكن اختزال الزمن في سياسات عامة تخبط خبط عشواء. فما أفسده الدهر لا يصلحه العطار في ثلاث سنوات أو أربع هي مدة الرئاسة الثانية لجورج بوش. فالإصلاح عملية طويلة ومعقدة وربما أدى إلى نتائج معكوسة كما حصل في الاتحاد السوفياتي حين أراد الرئيس ميخائيل غورباتشوف إصلاحه فانتهى إلى فشل وانهيار الاتحاد إلى دول ودويلات تتحارب وتتصارع حتى الآن.
الإصلاح إذا مسألة طويلة ومعقدة حتى لو كانت نوايا واشنطن صحيحة وسليمة. كذلك السلام في "الشرق الأوسط". فإدارة البيت الأبيض تعلم كما غيرها من عواصم عالمية أن هذه المسألة قديمة وشديدة التعقيد والتركيب ومن الصعب حلها في إطار غلبة الدولة الصهيونية على مجموع الدول العربية. فالسلام يحتاج إلى إرادة دولية تضغط على تل أبيب لتنفيذ القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، وهذا لا تريده الولايات المتحدة بل تريد عكسه. فهي تشجع "إسرائيل" على رفض تلك القرارات وتدعمها في التحايل عليها من خلال تكبير رأسها وتزويدها بالمال والسلاح وحماية برنامجها النووي واستبعاده عن طاولة البحث والمفاوضات.
السلام إذا في "الشرق الأوسط" مسألة مستبعدة أو هو بحاجة إلى وقت طويل للتوصل إليه حتى لو عدلت واشنطن سياستها واتبعت دبلوماسية الطرف الشريف والنزيه والعادل. أقصى ما يمكن أن تتوصل إليه إدارة بوش هو تهدئة الأجواء مؤقتا وإجراء ترتيبات أمنية تضمن مصالح "إسرائيل" وتفوقها العسكري على جيرانها من مصر إلى سورية ولبنان... وهذا لا يتم في ثلاث سنوات أو أربع هي مدة رئاسة بوش الثانية.
حتى لو افترضت حسن النية وسلامة التوجه ورجاحة العقل "وهي غير متوافرة في الإدارة الحالية" فإن السنوات الثلاث أو الأربع غير كافية لتحقيق "الإصلاح" و"السلام" في "الشرق الأوسط" لا الكبير ولا الصغير... إذا ما الأهداف التي يستطيع بوش تحقيقها في مدة رئاسته الثانية؟
السنوات الثلاث أو الأربع غير كافية لبناء "الديمقراطية" و"السلام" و"الإصلاح"، ولكنها كافية لتحطيم البنى التحتية وتقويض الاستقرار والأمن في دول "الشرق الأوسط" وإفتعال المشكلات بين الأشقاء والجيران وزرع الفتن وتفرقة حكومات تجمعها الكثير من المصالح والمنافع. فهذه الأهداف تستطيع الولايات المتحدة تحقيقها في أقل من ثلاث سنوات أو أربع وهي كافية لتدمير ما حققته الدول "على علاتها وسلبياتها" من إنجازات بسيطة اقتصرت على بناء جسور وأنفاق ومدارس ومستشفيات ومراكز تجارية وأبنية سكنية ومعاهد وأمنت بحدود معينة مصادر رزق لفئات قليلة من الناس.
تدمير البنى التحتية وزعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى على غرار ما حصل في العراق كلها مهمات لا تحتاج إلى وقت طويل لتحقيقها. والأسوأ من ذلك ليس تدمير المنطقة وتقويض دولها وإنما ما سيعقب ذاك الدمار الشامل من انفلات العنف وانفلاش الإرهاب وفتح السدود أمام أمواج من المياه الساكنة كانت محصورة في خزانات الأنظمة العربية وغير العربية.
هذا بالضبط ما تستطيع فعله الولايات المتحدة في ثلاث سنوات أو أربع حتى لو كانت خطتها غير ذلك. فالمسألة يمكن قراءة عناوينها من خلال السياسة لا التصريحات. والسياسة تشير إلى وجود كتلة شريرة تريد تفكيك المنطقة وبعثرة دولها لضمان أمن "إسرائيل" وأمن النفط وتأمين قواعد عسكرية للانطلاق... وهذا لا يقوم إذا قامت للمنطقة العربية قائمة.
اكتشاف "سر" السياسة التقويضية الأميركية لمنطقة "الشرق الأوسط" لا يحتاج إلى كثير من التفكير. التفكير يجب أن يتركز على مرحلة ما بعد التقويض. وهذا هو عنوان الموضوع الكبير: التقويض أسهل وأسرع من الإصلاح
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 885 - الأحد 06 فبراير 2005م الموافق 26 ذي الحجة 1425هـ