شملت الزيارة الاخيرة التي قام بها معاون وزير الخارجية السوري المكلف الملف اللبناني وليد المعلم لقاءات مع عدد كبير من الفعاليات السياسية اللبنانية، وكان اللافت للنظر فيها لقاء المعلم مع شخصيات لبنانية معارضة في خطوة هي الاولى التي يقوم مسئول سوري منذ سنوات طويلة، والهدف من الزيارة، كما أكدت مصادر سورية ولبنانية، رغبة المعلم في تكوين رؤية عامة عن الوضع اللبناني والعلاقات السورية - اللبنانية ومستقبلها في ضوء ما يشهده لبنان من تجاذبات سياسية، جعلت من موضوع العلاقات السورية - اللبنانية محور حركة أطرافها في السلطة والمعارضة، ويسعى السفير المعلم من خلال اطلاعه على وجهات نظر الشخصيات اللبنانية الى صوغ رؤية سورية للتعامل مع لبنان ورسم إطار مستقبلي للعلاقات السورية - اللبنانية.
ويشكل هذا التطور في السياسة السورية مفصلا باتجاه تحول نوعي في التعامل مع الموضوع اللبناني. اذا هو يفتح الباب لسماع مختلف الاراء اللبنانية من أصحابها مباشرة، بما فيها آراء أشخاص كثيرا ما جرى اعتبارهم في قائمة "خصوم" و"اعداء" سورية في لبنان، وقد عزفت الرسمية السورية السياسية والامنية عن اللقاء معهم على مدار سنوات طويلة كما في مثال الرئيس أمين الجميل الذي لم تجر معه اتصالات سورية منذ خروجه من السلطة في العام .1990
والامر الثاني الذي كرسته زيارة السفير المعلم ولقاءاته مع الشخصيات اللبنانية، هو انتقال الاتصالات من المستوى الأمني الذي درجت عليه العادة من خلال قيام الرئيس السابق لجهاز الأمن السوري في لبنان اللواء غازي كنعان بهذا الدور، ولاحقا إلى خليفته العميد رستم غزالة، وقد انتقل الآن إلى مستوى سياسي عال في الخارجية السورية بتكليف المعلم، وهو شخصية دبلوماسية مجربة ومرشحة لمنصب وزير الخارجية.
والامر الثالث في أهمية الاتصالات، انها تتم بصورة علنية ومباشرة تحت عين السلطة اللبنانية وبحضورها بخلاف ما كانت عليه الحال في السابق. اذ كانت تتم في أحيان كثيرة بمعزل عن السلطة، ودون المستوى الحالي من الشفافية الاعلامية التفصيلية.
وعلى رغم أهمية النقاط المحيطة بزيارة المعلم وما تم خلالها، فإنه لا يمكن المراهنة على ان الزيارة ستشكل تبدلا في النظرة السورية الى لبنان وتغييرا في العلاقات السورية - اللبنانية، والامر في هذا لا يتعلق بسورية وحدها، بل بلبنان أيضا وبالظروف الاقليمية والدولية المحيطة، وكلها أصبحت عوامل شديدة التأثير على النظرة السورية للبنان وشكل العلاقات معه.
لقد مضى على الوجود السوري في لبنان نحو ثلاثين عاما، وهذا يعني أن جيلا من اللبنانيين ولد وعاش في ظل الوجود السوري الذي غلب عليه الطابع العسكري - الأمني، قبل أن يتخذ له شكلا سياسيا يتضمن الطابع العسكري - الأمني بالاستناد الى اتفاق الطائف 1990 وما أقيم على اساسه من علاقات تضمنتها اتفاقية الاخوة والصداقة بين سورية ولبنان وما تلاها.
واذا كان لهذا الامر من معنى، فانه قد جعل السوريين واللبنانيين في مستوى معين من اعتياد العلاقات السورية - اللبنانية في طابعها المعروف الذي يتعرض للنقد حاليا، وقد خلق مصالح في الجانبين تقوم على إطار علاقات، حازت مستوى من الموافقات الاقليمية والدولية، وجعلت الوجود السوري في لبنان يستمر كل هذا الوقت على رغم كل الظروف التي مر بها لبنان وسورية والمنطقة.
لقد رتب الوقت الطويل للوجود السوري في لبنان طابعا خاصا للعلاقات يقوم على تدخل سوري في مختلف جوانب الحياة اللبنانية، بل ان هذا التدخل، كان يتم في كثير من الاحيان بطلب من جهات لبنانية، كانت تسعى الى تصفية حساباتها مع جهات لبنانية اخرى. وفي سياق هذه الاوضاع، كانت تقدم الرشا السياسية والمالية لسورية في لبنان أو لرموز سورية هناك، وهو ما ساعد في اعادة تكوين النخبة اللبنانية بما يتوافق مع المصالح السورية، وربط كثيرا من رموزها بسورية، وقد عكس ذلك نفسه على السلطة في لبنان وبشكل خاص منذ إطاحة العماد ميشيل عون من الرئاسة اللبنانية الانتقالية، فأصبحت السلطة في لبنان أقرب إلى سورية، وأخذ يتبلور تيار خصوم سورية في لبنان.
ولاشك في ان طبيعة الروابط الكثيرة بين سورية ولبنان، اضافة الى سنوات طويلة من الوجود السوري في لبنان وما تمخض عنه من نتائج، جعلت من الصعب حدوث تبدل سريع في العلاقات السورية - اللبنانية، التي تعتبرها المعارضة اللبنانية انها علاقات غير سوية مطلوب تصحيحها، ويعترف الموالون لسورية في لبنان، ان في تلك العلاقات شوائب، ينبغي تنقيتها، وهو ما يوافق عليه السوريون.
وما يجعل الامر أكثر صعوبة مجموعة تطورات اقليمية ودولية احاطت بالموضوع، كان الابرز فيها صدور القرار الدولي 1559 للعام 2004 الذي شكل سندا يتم الاتكاء عليه داخليا وخارجيا في موضوع الوجود السوري في لبنان ومستقبل العلاقات السورية - اللبنانية، ما خلق صعوبات أمام سورية والنخبة الموالية لها في لبنان للتوافق السريع مع هذه التغييرات، ومؤشرات ذلك تبدو واضحة في ارتباكات سياسة سورية اللبنانية ومثيلتها في مواقف السلطات اللبنانية وحكومة الرئيس كرامي الموالية لسورية، الامر الذي يعني ان ثمة حاجة لبعض الوقت لاعادة بناء نظرة سورية جديدة الى لبنان، ورسم ملامح لعلاقات جديدة بين البلدين.
وبهذا المعنى يمكن القول ان زيارة معاون وزير الخارجية السوري الى لبنان وما قام به خلالها من اتصالات واستماع لوجهات نظر وآراء لبنانية، لن تقود الى معالجة الموضوع اللبناني في السياسة السورية، بل هي في أحسن الاحوال، ستسهم - اذا تمت المثابرة عليها وتطويرها - في تصحيح النظرة السورية للوضع في لبنان، ووضع اطار مناسب لعلاقات مستقبلية تتوافق ومصالح البلدين والشعبين. ذلك انه من الصعب، ان يصلح "المعلم" ما افسدته سياسات وممارسات السنوات الطويلة من الزمان
العدد 883 - الجمعة 04 فبراير 2005م الموافق 24 ذي الحجة 1425هـ