في مثل هذه الأيام قبل 26 عاما من الآن كانت إيران على موعد مع "ترحيل" الدفعات الأخيرة من المستشارين الأميركيين على طريقتها الخاصة مستقبلة في الوقت نفسه زعيما دينيا لها هو الأول من نوعه في منظومة المدرسة الشيعية الإسلامية "يقتحم" المشهد السياسي الإيراني بزخم منقطع النظير ثم ليتربع على أعلى هرم السلطة فاتحا بذلك عهدا جديدا مختلفا ألوانه وأشكاله عما سبقه بالشكل كما بالمضمون من تجارب حزبية أو سياسية سابقة.
يومها لم يكن الأميركيون وحدهم الذين فوجئوا بسرعة التحول ومضامينه. ولا حتى الأنظمة السياسية الإقليمية التي كانت قد وطنت نفسها على التعايش مع العهد الإيراني البائد وهو المتكئ في حينها على عرشه الوثير بقوة المستشارين الأميركيين ودعمهم واسنادهم اللامحدود له، بل ان المفاجأة طالت حتى قيادات الحركة الإسلامية باشكالها والوانها المختلفة بمن فيها تلك الشيعية المنتشرة في الإقليم العربي والإسلامي العريض، ومنها بلاد الرافدين، الجارة الأكثر تواصلا مع مجريات التحولات الإيرانية منذ بدايات القرن العشرين حتى الآن.
يومها حركت ثورة الإمام الخميني المنتصرة بقوة الخطاب والناس وليس بقوة السلاح والاحزاب، كل المياه الراكدة في برك الأنظمة السياسية الإقليمية وبرك الاحزاب الإسلامية معا، الأمر الذي دفع بالأميركيين "المرحلين" على حين غرة مما كانوا يسمعونها "جزيرة الاستقرار"! نسبة إلى دولة الشاه الإيرانية التي كانت تبدو أكثر استقرارا من أي بلد آخر في المنطقة، نعم دفع بهم لإعادة النظر مليا بكل تصوراتهم التقليدية المعروفة عن الدين وعلماء الدين والاحزاب الدينية وكل ما يترتب على ذلك من نتائج.
بالمقابل فإن مجموع الحركات والاحزاب الإسلامية هي الأخرى اندفعت بجد واجتهاد لإعادة النظر مليا بكل ما كانت تملكه من تصورات تقليدية عن السياسة والسياسيين والسلطة السياسية والعمل السياسي والعمل الحزبي إلى ما هنالك من تداعيات تترتب على ذلك التحول والتغيير.
26 عاما مضت على ذلك الدرس البليغ كما يفترض، لكن أميركا لم تتعلم الدرس تماما، كما ان الاحزاب الدينية هي الأخرى لم تتعلم الدرس كما يجب، ولا أظن ان الأنظمة الإقليمية قد تعلمت هي الأخرى.
وحدها "الناس" والكتل الجماهيرية الكبرى هي التي حفظت الدرس جيدا على ما يبدو إذ قامت بتخزين ما يمكن تخزينه من "سلاح" الحكمة والمعرفة والعقل الجمعي والوجدان العام الذي تعرف كيف تحركه في الوقت المناسب وفي المكان المناسب عندما تحين ساعة التغيير.
فعلى رغم كل ما قيل ويقال عن كتل الشعب العراقي الاساسية باقوامه وطوائفه وملله ونحله المتعددة فإنها استطاعت ان تقدم دروسا وعبرا ونماذج وأمثلة في مجال التعبير الحي والأصيل عن الذات بطريقتها المناسبة في الزمان والمكان المناسبين.
فهي عملت مع التظاهرة حيث تتطلب التظاهرة، وعملت مع "المقاومة" للاحتلال حيث تتطلب "المقاومة" وعملت بالنأي عن أعمال العنف حيث يتطلب النأي عنها حتى لا تقع في شبهة "الإرهاب"، وعملت إلى جانب علماء الدين ورموز الممانعة الوطنية حيث يتطلب الأمر الدفاع عن هذه الرموز التاريخية حتى لا تبقى فرسية الأجنبي الباحث عن الهيمنة بقوة السيف، ولا فريسة "الإرهابي" الباحث عن الاستبداد برأيه بسيفه البتار!
الإمام السيستاني ليس من "جنس" الإمام الخميني بالتأكيد، والعارفون بتفاصيل الأمور يعرفون ذلك جيدا. والاحزاب الشيعية العراقية ليست الحركة الإسلامية الإيرانية بالتأكيد، والظروف العراقية الحالية لا علاقة لها بالظروف الإيرانية المشار إليها قبل 26 عاما، لا من قريب ولا من بعيد. لكن الناس هم الناس، والجمهور هو الجمهور، والشعوب هي الشعوب تفعل فعلها في اللحظات التاريخية بكل دقة، خصوصا عندما تستفز في الأعماق ويتم تحديها في عمق كراماتها.
لم تفرش الورود للاحتلال، ولم تستسلم للذل والهوان، ولم ترتد للوراء في عز الامتحان، ولم تجر إلى معارك الشقاق والنفاق، ولم تقتتل على غنائم الدنيا الزائلة من ثروات حرام أو سلطات زائلة. فيما قدمت الغالي والنفيس من أجل الوطن والدين والكرامة الإنسانية.
الكتل التي انتخبت كما الكتل التي قاطعت الانتخابات "واقصد الكتل الجماهيرية" اختارت ذلك وعينها على العراق ومستقبل الوطن والغيرة الدينية والوطنية.
والمطلوب اليوم من الجميع مكافأة هذه الناس بأحسن ما يمكن. واحسن ما يمكن اليوم هو التنادي إلى "مجلس وطني للانقاذ" يجمع كل المخلصين الساعين لتحرير العراق من ظلم الأجنبي وعسفه وظلم ذوي القربى أيضا. وهذا المجلس لن يكون بديلا للمجلس المنتخب ولا لغيره من المجالس الوطنية الكثيرة، مجلس يجمع ولا يفرق، مجلس العراق الموحد المتحد المنبثق عن إرادة أهل العراق وناسه، لا مجلسا يشكل في الظلام وتتقاسم حصصه الاحزاب أو المنظمات والكيانات الحزبية على حساب الناس، فتلك لها مجالسها وتجمعاتها ومهامها ومهماتها، فيما الناس اليوم في العراق تبحث عن "مجلس وطني للانقاذ" يدفع كل أشكال البلاء عن العراق ويحصن وحدته الداخلية ويدافع عن جميع مكوناته الدينية والوطنية والإنسانية. مجلس يشكل محورا للوفاق على مستقبل واعد للعراق ليس فيه قوات احتلال ولا ولاءات لغير العراق، والا فالخطر المحدق بالعراق يمكن أن يدفع العراق ليس إلى التمزق والتجزئة والتقسيم فحسب، بل انه سيمتد إلى سائر جيرانه ليجعل الأقطار المجاورة أيضا قطعا متناثرة على رقعة شطرنج القوى المتصارعة على النفوذ والاستحواذ.
الناس في العراق قاموا بدورهم كما يجب حتى الآن ويبقى الرهان الآن على القيادات الدينية والوطنية الواعية القادرة على الجمع بين الممانعة أمام الأجنبي الطامع بالهيمنة والنفوذ، والتحرك "الواقعي" بناء على معطيات اللحظة الراهنة.
فهل يتمكن الفائزون بالانتخابات من تجاوز "غرور" واغراءات لعبة صناديق الاقتراع الجذابة المبهرة فيمدوا أيديهم إلى جميع أبناء بلدهم لينقذوا ما تبقى من "حطام" العراق؟!
انهم بحاجة إلى "زعامة" وفاقية ما وراء القومية والطائفية والعرقية والمناطقية والعشائرية والقبلية والفئوية، تجعل مهمتها الأساسية العمل على إخراج القوات الأجنبية ضمن جدول زمني محدد وخطة واضحة وشفافة، والعمل في الوقت نفسه على إعادة اللحمة بين مكونات العراق وإعادة صوغ نظامه السياسي على قواعد العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بعيدا عن كل اشكال الانانية والفئوية أو شهوة الانتقام أو الاستفراد بالسلطة
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 883 - الجمعة 04 فبراير 2005م الموافق 24 ذي الحجة 1425هـ