تركيا اليوم تصنع لها وجها (عربيا) آخر. الملامح بدأت في التبدّل منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل سبعة أعوام، واكتملت محاسنها مطلع هذا العام، حين كان العدو الصهيوني يعتدي على قطاع غزّة.
اليوم يظهر لاعبٌ آخر في معادلات الإقليم. جغرافية اللاعب الجديد كانت تُلزمه بأن «يتشرّق» ولو بحدٍ أدنى تلبية لمتغيره التاريخي والسوسيولوجي، لكن سياسة أتاتوركية متطرفة كانت تسحبه نحو الخلف عُنوة.
قبل سبعة قرون وعشر سنين تأسّست الدولة العليّة العثمانية. توسّعت مراميها حتى كادت تنفجر لتخمة ما حازته من أرض. كانت ناصية الدولة دينية بامتياز. تقلّدت ذلك إيمانا منها بأن الدين سيُقلّل من حجم الاختلاف عليها، وستسير به وبراياته لتحقيق المطلوب.
وبعد ستة قرون من السيطرة في آسيا الصغرى والحجاز والعراق والشام ومصر والمغرب العربي والصومال وأوروبا، جاءت الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) لتُنهي الظاهرة الممتدة. انزلقت الإمبراطورية العثمانية وهي عليلة في حرب دولية مُرهقة مع حلفاء غير متجانسين، فانهزمت، ووقّعت اتفاقية سيفر المُذِلّة.
في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1922 انتهى عرش السلطان. وبعد عام قامت الجمهورية التركية. وبعد خمسة أشهر ألغيت الخلافة الإسلامية ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء رسميا. وبعد سبعة وثلاثين يوما ألغيت المحاكم الشرعية.
وبعد عشرين شهرا أغلقت الزوايا والحلقات الدينية. وبعد سنتين وخمسة أشهر أُلغِيَ الإسلام كدين للدولة. وبعد ستة أشهر استُبدلت الحروف العربية بأخرى لاتينية. كان الأمر رهيبا بالنسبة لجيل «محافظ». لقد تغيّرت الدولة بشكل راديكالي.
قاد هذا التغريب المفاجئ والسريع إلى نشوء هزّات بنيوية في المجتمع التركي. بعد إلغاء المظاهر الدينية، وطيلة عشرة أعوام متوالية ظهرت مؤسسات دينية على حوافّ المجتمع كتحدّي لسلطة الدولة الجديدة، التي بادرت بإغلاقها.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انشقّ عدنان مندريس وجلال بايار عن حزب أتاتورك بسبب تغييب الدّين ومعاداته في آن واحد. لاقى الحزب سمعة جيدة بين الأتراك، لاهتمامه بالفقراء والفساد، دفع بالسلطات لأن تعيد النظر في الممارسات الدينية.
أدى انفتاح الساسة الجدد على الدين إلى فوزهم في الانتخابات في العام 1950. وبعد عقد تقريبا انقلب العسكر على النظام المدني وصِيْغَ دستور جديد بحجّة حماية النظام العلماني.
ثم أعادوا الكَرّة مع نجم الدين أربكان في العام 1971، لكن تطعيم الحياة الاجتماعية والعامة بجرعات دينية مُرتدة أدى إلى حدوث تغيير في قابليات المجتمع المدني، فسّرَتْها حقبتي الثمانينيات والتسعينيات (راجع ما كتبته شئون الأوسط، العدد 118، ربيع 2005).
خلال الحرب الباردة، كانت تركيا محصورة في جَيْبٍ جغرافي ضيّق. ورغم أنها كانت راية في معارك الرأسمالية ضد الشيوعية، إلاّ أنها بقيت خارج الاحتضان الأوروبي المساوي لما قدمته للدول الغربية.
ولأنها كانت تُريد لنفسها أن تكون عصيّة على عدم التساهل مع غير العلمانية والظهور كدولة غربية في نصها وتفسيرها، فقد بقيت غير قريبة من العالمين العربي والإسلامي معا.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور دول القوقاز واندلاع الحرب في الشيشان، وتفكّك يوغسلافيا ونشوب الحرب في البلقان، توسّع الاهتمام التركي بهذا المحيط، وبالمحيط الجنوبي حيث شمال إفريقيا ومنطقة الخليج.
ورغم أن أنقرة تورّطت في جزء من صراعات الجغرافيا المتحررة حديثا بطرق غير مباشرة كما حدث ذلك في النزاع الأرميني الآذربيجاني بخصوص إقليم ناغورني كاراباغ، والذي أدّى إلى بروز خلاف بينها وبين إيران بسبب دعم الأخيرة لأرمينيا، إلاّ أنها كانت تعتقد بأن ذلك لا يعدو كونه ضريبة الواقع الجديد.
عَمِلَ الأتراك ضمن مسار «الخيار المتعدد». اتجاه في الشرق حيث إيران وجنوبا حيث للعرب، وشمالا نحو روسيا والقوقاز، وغربا باتجاه الاتحاد الأوروبي. كان ذلك بمثابة إعادة تموضع تركيا في الإقليم ومراعاة «العلاقة الديناميكية بين القوى الكبرى خارج المنطقة، وبين التوازنات الداخلية للمنطقة».
في توجّه الأتراك نحو العالم العربي واجهوا معادلة صعبة. وهي كيفية التوفيق بين متطلباتهم العسكرية وأمنهم القومي وبين الجيرة السياسية الجديدة مع المنطقة التي تتنافر وخياراتهم مع الخصوم.
لذا فإنه وفي الجزء المتعلّق بتحديث الجيش التركي، كان خيار أنقرة ينطلق من الحكمة الرومانية القائلة «إذا كنتَ تريد السلام فكُن مستعدا للحرب». كان الأتراك يرغبون في امتلاك أقصى أنواع التقنية العسكرية الحديثة.
كان ذلك جزءا من إقامتهم لعلاقات كاملة وشبه استراتيجية مع الكيان الصهيوني. فقد كان اللوبي الأرمني واليوناني في الولايات المتحدة يلعب دورا في إعاقة حصول تركيا على التقنية الحديثة (كما يقول سيفي طاشهان) فوفّرتها لها تل أبيب كضريبة للعلاقة معها، وهو ما شكّل معضلة مع العالم العربي وخصوصا سورية.
يرسم الاستراتيجي التركي أحمد داوود أوغلو وضع تركيا اليوم كالتالي «يُتيح التأثّر الاستراتيجي ما بين المناطق ساحات مناورة جديدة للقوى الإقليمية من جهة، ويخلق ضرورة مواجهة مجازفة أمنية جديدة من جهة ثانية».
ويضيف «تُحقّق القوة الإقليمية موقعا مهما، إذا استطاعت تقويم الوضع الديناميكي الذي تُظهره ساحات التأثّر ما بين المناطق بتوقيت صحيح، وتخطيط استراتيجي منسجم».
«أما القوى التي لا تستطيع تقويم ميزات الوضع الديناميكي في شكل جيد، فإنها ستواجه خطوط أمنية جدية، لأن ما سيبرز في المقدمة هو استراتيجيات التأثّر ما بين المناطق التي تُحدّد وتؤثر في بعضها بعضها وليس مرحلة السياسات الإقليمية المستقلة».
وطبقا لمرئيات أوغلو فإن خطا مستقيما يتّجه من أنقرة صوب الشرق الأوسط وبحره المتوسط، ثم إلى القوقاز، وصولا إلى البلقان، ليُشكّل خواصر استراتيجية لتركيا. وخصوصا أن التدافع بالدومينو بين هذه المناطق هو الملمح الأبرز في تلك المعادلة.
الآن يأتي الاستثمار العربي للتوجّه التركي نحوه، والذي بدا واضحا خلال الحرب الصهيونية على قطاع غزّة. فإذا كان الإيرانيون قد مارسوا دبلوماسيتهم عبر القناة التركية خلال أزمة غزّة لضيق خياراتهم مع الدبلوماسية الدولية بسبب قلّة الثقة، فإن العالم العربي مُطالب بأن يستثمر هو أيضا تلك العلاقة من منطلق حاجة الأتراك له.
أقصى ما يتوجّب أن تُدركه الدول العربية هو أن أنقرة تحتاج إلى موقعين مهمين هما في الأساس أملاك عربية صرفة. الأول هو العراق وبالتحديد خليج البصرة، والثاني هو سورية حيث طرطوس وحرّان. هنا يعتقد الأتراك بأن هذا الحزام هو «محور ساحة التأثّر» بالنسبة لهم لإيصال القوقاز بالمحيط الهندي.
لذا تُصبح المسئولية هنا مسئوليتان بالنسبة للعرب. الأولى إيجاد لُحمَة عربية متماسكة، من شأنها أن تُرحّل كل الخلافات العربية العربية (أو أغلبها) للوقوف على أرضية صلبة في التعامل مع الخصوم والحلفاء معا.
والثاني هو التوافق العربي بشأن ضرورة استيعاب المتطلب التركي وتثميره لصالح الأمن القومي العربي. الأمر يبدو أكثر إلحاحا مع وجود حزب العدالة والتنمية الحاكم، لميله نحو الشرق «المسلم» وليس الشرق العربي فحسب. إنها مسئولية كبيرة يجب أن يُلتفت إليها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2397 - الأحد 29 مارس 2009م الموافق 02 ربيع الثاني 1430هـ