قرأت حكاية سيدةٍ بلجيكيةٍ ترويها عن أبيها أيام الاحتلال النازي لبلادها في الحرب العالمية الثانية، حيث كان يخضع جميع البلجيكيين للتنصّت والتجسّس والرقابة المشدّدة في سكناتهم وحركاتهم.
تقول السيدة: كان أبي عندما يفتح على الـ «بي بي سي» للاستماع لأخبار الحلفاء، فإنه يخرج من البيت للتأكّد هل يُسمع صوت المذياع من النافذة. وفي إحدى الليالي بينما كان يقوم بالمهمة الاستطلاعية، تلقّى رفسة قوية في قفاه، وفرّ الفاعل في الظلام سريعا قبل أن يستيقظ أبي من هول المفاجأة!
في صباح اليوم التالي لاقاه أحد جيراننا، فقال له: «لقد شاهدت البارحة أحد الجواسيس الألمان وهو يتنصّت عليكم من النافذة، فرفسته في مؤخرته وهربت قبل أن يقبضوا علي»!
الحكاية مرّ عليها أكثر من ستين عاما، وقرأتها قبل عشرين عاما، وظلّت تضحكني كلما تخيّلت المنظر، واستعدتها وأنا أقرأ المبرّرات التي طرحتها هيئة تنظيم الاتصالات للتجسس على الاتصالات في مطلع القرن الحادي والعشرين!
إذا نجحت الهيئة في تمرير هذا الوضع الشاذ من التجسّس على الناس، تحت ذرائع واهية، فإنها ستسلب بالشمال ما أعطاه الدستور للمواطنين من حمايةٍ للحقوق العامة وحفظٍ للكرامة والحرمات والخصوصيات.
لا يمكن أن يمرّ هذا الموضوع مرور الكرام، فجميع البحرينيين والوافدين سيكونون مكشوفي الرأس، بسبب زيادة الهواجس الأمنية لدى بعض الجهات، التي تنتهج سياسة «خذوهم بالظنة ولاحقوهم بالتهمة»!
البعض أشار إلى ما تمثّله هذه الخطوة الرجعية من آثارٍ على حركة الاستثمارات، وبالتالي تنفير الشركات من الدخول في بلدٍ لا يحفظ للشركات أسرارها، ويمكن أن تستباح معلوماتها من قبل منافسيها للإضرار بها وضرب تنافسيتها. إلا أن القطاع الاقتصادي ليس إلا الجزء الأقلّ تضررا من عملية التجسس واستباحة أسرار الناس وخصوصياتهم بسبب تضخّم الهواجس الأمنية لدى بعض الجهات.
أسئلة كثيرة لابد أن يطرحها المجتمع المدني، لأن هذه السياسة العقيمة تهدّد الحريات العامة، والكلّ يعلم أن المستهدف الأول في هذه المعركة هم النشطاء السياسيون والحقوقيون، والجمعيات السياسية والتيارات الفكرية على وجه العموم.
على أن الضرر لن ينحصر في خانة ما يسمى بـ «المعارضة»، بل سيشمل كل من يعيش على هذه الأرض، فليس هناك أحدٌ يستغني اليوم عن خدمات الهاتف النقال، أو الرسائل القصيرة، أو خدمة الإنترنت للتواصل مع العالم من حوله. صحيحٌ أن أكثرها تتعلق بشئون الحياة العادية، إلا أن بعضها يمكن أن تستغلها الجهات المتورّمة أمنيا بصورةٍ انتقائيةٍ، للإيقاع بكل من يتلفظ بكلمة، وفي الوقت الذي تريد، كما حدث في ملاحقة بعض الصحافيين مؤخرا.
العصفور أكبر من الفخّ، فهيئة تنظيم الاتصالات حين تفرض على شركات الاتصالات الاحتفاظ بسجلات لجميع المكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية والمواقع التي يزورونها لمدة ثلاث سنوات، فهذا تدخلٌ وتطفلٌ على حريات الناس أصلا، بما يصطدم مع نصوص الدستور. والأخطر أن تنوّرنا الهيئة بأن عملية التجسس على المواطنين أمرٌ غير جديد، بل كانت موجودة من قبل، لكي لا ينام أحدٌ مطمئنا على خدّه الأيمن، فلا يأمنن أحدكم قط... ففي الدول البوليسية يتلقى المواطن الرفسة خلسة في الظلام!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2397 - الأحد 29 مارس 2009م الموافق 02 ربيع الثاني 1430هـ