رغم محاولات بعض النواب تحاشي الوقوع في فخ «الانقسامات الطائفية»، وسعيهم الحثيث للحد من سيطرتها على أعضاء المجلس النيابي، لكن سير جلسات المجلس، وطبيعة النقاشات التي تسودها، والقرارات والتوصيات الصادرة عنها، جميعها تشير إلى أن المجلس النيابي، يسير وبسرعة فلكية نحو «هاوية الطائفية»، سواء أقرّ بذلك نوابنا الأفاضل، أم حاولوا نفيه. وأسوأ ما في الأمر أن تيار «التأزم الطائفي» يتجاوز وبسرعة أروقة المجلس النيابي، كي يسري وبسرعة أيضا في مختلف مؤسسات المجتمع البحريني، ناهيك عن فئاته وطوائفه، مولدا حالة من الاحتقان السلبي الذي ينعكس مباشرة، شئنا أم أبينا، على الحراك السياسي الإيجابي للمجتمع، شالا بذلك حركة تقدمه الاقتصادي، مكدرا، بقصد أو بغير قصد، صفو مياه استقراره الاجتماعي.
وهناك الكثير من الأسباب التي تقود أي مجتمع، متنوع الطوائف مثل المجتمع البحريني، نحو التأزم، فهناك الأسباب الملموسة، والواضحة للعيان، من اقتصادية، واجتماعية. لكن بعيدا عن ذلك، هناك أسباب أخرى كثيرة يصعب للعين المجردة رؤيتها. ولعل من بين هذه الأسباب غير المحسوسة بشكل مباشر، هي محاولة كل فئة من الفئات المتنافسة أو المختلفة في الرأي، نفي الفئة الأخرى. والمحصلة الطبيعية لمحاولة النفي تلك، دخول المجتمع، بقواه الباحثة عن التغيير والمتطلعة نحو التطور، في دياجير صراعات هامشية، وخلافات ثانوية تحرف المجتمع عن مساره الطبيعي، الذي يضمن له الرخاء والاستقرار والتقدم.
وسلبيات نفي الآخر لا تنحصر في إعاقة حركة المجتمع فحسب، بل ربما تقوده أحيانا إلى الدخول في معارك اجتماعية داخلية، أو شنّ حروب وغزوات خارجية. ومن دون الحاجة إلى الغوص في أعماق التاريخ، يمكننا أن نستدل على ذلك من الحروب الحديثة التي شنتها قوى حاولت فيها نفي قوى عالمية أخرى وضعتها تلك القوى في الخانة المنافسة لها. فمن بين الأسباب التي دفعت ألمانيا إلى شن الحرب العالمية الثانية، هو رغبتها في الاستئثار، دون غيرها من الدول الأوروبية الأخرى، بخيرات المستعمرات ومناطق النفوذ.
لقد وصل الأمر بشخص مثل هتلر، وفي سياق نفيه للأجناس الأخرى من البشر، أن يعتبر العالم، كله دون أي استثناء، لا يستحق أن ينعم بما ينبغي أن ينعم به العرق الآري وعلى الصعد كافة. وكانت النتيجة أن دفعت ألمانيا، ومعها دول العالم الأخرى، بما فيها تلك التي انتصرت في الحرب الكونية الثانية، الثمن باهضا لقاء محاولة النفي للآخر تلك، وخاصة أنها قوبلت برفض القوى المنتصرة في تلك الحرب الاعتراف بحق ألمانيا في التكفير عن تلك الجريمة، وهو أمر فيه هو أيضا نفي لطرف آخر.
يتكرر المشهد اليوم، حيث تحاول واشنطن، انطلاقا من المكاسب التي حققتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتوجتها بسقوط الكتلة الاشتراكية، واستفرادها بزعامة العالم بعد إسقاط قطبه الثاني، إلى نفي الآخرين، بمن فيهم حلفاؤها الاستراتيجيون من دول حلف الناتو، كي تجني كل الثمار وحدها دونما مشاركة أحد.
دفعت واشنطن، ومعها العالم أيضا الثمن باهضا جراء هذه السياسة العنجهية تبلورت في الأزمة البنيوية التي تعرض لها الاقتصاد العالمي، والتي مازال العالم يعاني من ذيولها وتداعياتها، نظرا لإصرار واشنطن على عدم الاعتراف بالآخرين من مستوى الصين والهند الذين باتوا، شاءت الإدارة الأميركية أم أبت، يستحقون نيل حصتهم من كعكة الاقتصاد العالم وأسواقه.
وعلى المستوى العربي، يمكننا الاستشهاد بأن أحد أسباب سقوط الدولة الأموية، وفي مرحلة مبكرة من حياتها، هي رفضها للاعتراف بطرف آخر أدخلته الفتوحات الإسلامية والذي هو العنصر الفارسي. لقد دفعت الدولة الإسلامية العربية حينها، الثمن باهضا من جراء هذا النفي للآخر.
وفي التاريخ العربي المعاصر، تدفع البلدان العربية ضريبة باهضة من جراء سياسات القوى الممسكة بالحكم فيها، القائمة على رفض الاعتراف بالقوى الأخرى المعارضة، التي هي بدورها تعاني من الداء ذاته، حيث ترفض كل منها على حدة، الاعتراف بغيرها من القوى المعارضة الأخرى، مما يسهل الأمر على السلطة كي تستمر في سياسة نفيها للآخرين، من خلال اللعب على حبال الخلافات بين قوى المعارضة المختلفة.
وإذا ما عدنا إلى المجلس النيابي البحريني، سنكتشف، وللأسف الشديد، أن الصورة لا تختلف كثيرا، وإن كان هناك بعض التباين في التفاصيل الجزئية. ففي الوقت الراهن، تتنازع المجلس قوتان سياسيتان تتمترس كل منهما وراء ستارها المذهبي، سواء اعترفت بذلك أم أنكرته، سائقة من أجل ذلك التمترس غير المقبول، الكثير من الأسباب والمبررات. ومحصلة كل ذلك، أننا بينما نجد المعارضة، ممثلة في النواب، غارقة في رمال الطائفية المتحركة، تقف السلطة متفرجة، مخفية ابتسامة شماتة من جهة، وفرحة لا متناهية من جهة ثانية. فبينما يلهو نواب الطائفتين بمحاولة كل منهم لنفي الآخر، تنجح السلطة، دونما أية مساءلة في تمرير الموازنات العامة التي وقف النواب، قبل حروب نفي الآخر تلك، صفا واحدا متراصا ضد الكثير من بنودها.
إن سلوك النفي للآخر، ومحاولة الاستئثار بتمثيل المواطن، والسعي للاستفراد بالدفاع عن مصالحه، باتت تسود العلاقات بين الكتل النيابية، دونما استثناء، وإن كان لنا أن نخرج من تلك الأزمة، فليس هناك من طريق سوى إقرار كل منا بالآخر، واحترام أرائه ومبادئه. والأمر هنا ليس بحاجة إلى التوقيع على ميثاق شرف، أو الخروج ببيانات مشتركة بقدر ما هو بحاجة إلى قرار ذاتي شجاع ينزع بفضله كل نوابنا الأفاضل عباءات نفي الآخر والاتشاح برداء القبول به ومحاولة تفهم أفكاره.
المحذور هنا أنه كلما طالت فترة نفي الآخر هذه، كلما تعمق وأتسع نطاق التمزق الطائفي، وكلما أصبحت عودة الأمور إلى مجاريها الطبيعية أشد صعوبة وأغلى ثمنا.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2397 - الأحد 29 مارس 2009م الموافق 02 ربيع الثاني 1430هـ