كيف ستكون عليه حال الجامعة العربية بعد انتهاء قمة الدوحة وصدور البيان الختامي بشأن مختلف القضايا القومية والإقليمية والمحلية؟
استحقاقات كثيرة تنتظر الجامعة العربية في السنة الجارية وقبل اقتراب موعد القمة التالية. أول الاستحقاقات إعلان بنيامين نتنياهو عن تشكيلة وزارته الائتلافية وتقديمها إلى الكنيست لنيل الثقة. وفي حال نجاح حكومة ائتلاف أقصى التطرف في أخذ موافقة البرلمان الإسرائيلي، وهو أمر متوقع، ستبدأ معالم سياسية بالظهور على المشهد الإقليمي بدءا من مشروع السلام واستمرار التفاوض مع السلطة الفلسطينية وانتهاء بمسألة تبادل الأسرى مع «حماس».
ثاني الاستحقاقات موضوع دارفور ومصير الرئيس السوداني عمر البشير في ضوء تداعيات مذكرة التوقيف التي صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية وما يمكن أن تتركه من توترات على مستوى العلاقات العربية ومنظومة الأمن الإقليمية.
ثالث الاستحقاقات بدء التفاوض العلني (وجها لوجه) بين الولايات المتحدة وإيران وما يترتب عليه من تفاهمات بشأن الملفين العراقي والأفغاني وإمداداتهما الموضعية والجوارية والإقليمية.
رابع الاستحقاقات بدء ترجمة الانفتاح الأميركي على سورية دبلوماسيا وسياسيا وما يترتب عنه من تفرعات تتصل بالملفين اللبناني والفلسطيني واتفاقات الهدنة بين دمشق وتل أبيب.
خامس الاستحقاقات مسألة أمن خطوط التجارة عبر البحر الأحمر وقناة السويس ودور المنظومة العربية الإقليمية في مكافحة القرصنة وضمان استمرار الشريان الحيوي الذي يربط المحيط الهندي بحركة المواصلات مع البحر المتوسط.
سادس الاستحقاقات موضوع استقرار الخليج وما يتشعب عنه من ملفات تتصل بخطوط إمدادات النفط والتوازن الإقليمي واحتمال حصول متغيرات في التحالفات الدولية وغيرها من نقاط قد تلعب دورها في إعادة تعريف وظائف هيئات تأسست في ظروف معينة وبات على المهتمين بها تعزيزها أو تطويرها أو توسيعها حتى تتكيف مع المهمات والمستجدات التي طرأت على المنطقة في السنوات الثماني الماضية.
النقاط الست تتطلب فعلا حركة عربية قادرة على التجميع والاستقطاب حتى تكون على سوية تنظيمية مؤهلة لاستيعاب المستجدات وإعادة ترتيبها ضمن برنامج أولويات يأخذ في الاعتبار المتغيرات الدولية التي أخذت تظهر خطوطها العريضة في الاستراتيجية الأميركية.
الرئيس باراك أوباما أعلن قبل ثلاثة أيام أن أولويته في السياسة الخارجية تتركز الآن على الملف الأفغاني وملحقه الباكستاني. وهذا الإعلان يشكل خطوة واضحة باتجاه تركيز الانتباه على جنوب غرب آسيا ما يشير إلى تراجع اهتمامه بمعالجة الملف الفلسطيني.
إعطاء أوباما مسألة مطاردة الإرهاب بالتنمية (الجزرة) والقوة (العصا) في أفغانستان وباكستان الأولوية في سياسته الخارجية سيوفر فرصة جديدة وربما نادرة للائتلاف الإسرائيلي المتطرف بالمماطلة والتهرب من الالتزامات والاتفاقات التي وقعتها أو وعدت تل أبيب بتنفيذها في فترات سابقة. وتراجع الاهتمام الأميركي بالموضوع الفلسطيني سيدخل مشروع «الدولتين» في ثلاجة الانتظار في وقت ستستمر فيه عمليات توسيع المستوطنات في الضفة وتهويد القدس من دون اعتراض دولي فاعل.
هذه نقطة أولى. النقطة الثانية ستتركز على الساحة العراقية من حيث كونها مسألة تمس الأمن الأميركي ومصير القوات المحتلة ودورها في السنتين المقبلتين. فالعراق يأتي الآن في المرتبة الثانية بعد أفغانستان في جدول اهتمامات الرئيس أوباما وهذا يتطلب من واشنطن إعادة ترتيب العلاقات مع دول الجوار بما يتناسب مع حاجات قواتها للتموضع والانسحاب ضمن برنامج زمني. ويخشى أن تحصل في هذه الفترة الزمنية مراجعات أميركية تتصل باحتمال نهوض فراغات أمنية تدفع الأطياف الأهلية نحو التنافس والتنازع لتأسيس مواقع نفوذ محلية تؤدي إلى خلخلة التوازن وتشجع على قيام دويلات طائفية ومذهبية تتخندق في المحافظات والأقاليم الجغرافية التي تتألف منها بلاد الرافدين.
احتمال تمزق العراق مسألة غير مستبعدة بعد أن ساهم الاحتلال في ترسيم خريطته السكانية وتوزيعها على تجمعات أهلية متجانسة في تكوينها المذهبي وتشكيلها الطائفي. فالساحة الآن لم تعد كما كانت في السابق سواء على مستوى الهوية أو على مستوى الموقع والدور. وشخصية العراق التي يمكن أن تتشكل سياسيا بعد الانتخابات البرلمانية في نهاية السنة الجارية لا يستبعد أن تكون محطمة على مثال (نموذج) صورة الواقع العمراني والبشري. والنموذج العراقي الذي كلف الخزانة الأميركية نحو ثلاثة تريليونات من الدولارات لن تضحي به بسهولة لأنه يشكل في منظومتها الاستراتيجية الإطار الناجح الذي يمكن الاحتذاء به وربما تصديره أو تسويقه إقليميا.
استحقاقات كثيرة تواجه الجامعة العربية بعد قمة الدوحة في السنة الجارية، وهي في مجموعها لا يمكن تعدادها نقطة بعد نقطة. مثلا هناك موضوع المصالحات العربية - العربية، ومسألة المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية واحتمال نجاح أو فشل الفصائل في التوصل إلى تشكيل حكومة تقرأ جيدا المخاطر التي تواجه القضية المركزية. ومثلا هناك موضوع الانتخابات اللبنانية واحتمال تبعثر التفاهمات المؤقتة بين الأطياف الأهلية وعودتها مجددا نحو الانزلاق باتجاه التوتر السياسي المعطوف على الطوائف والمذاهب والمناطق. وهناك أيضا موضوع الانتخابات الكويتية ومصير سلسلة الأزمات المتواصلة ومدى قدرة السلطة على تحمل التجاذب السياسي بين الإطار الديمقراطي والعصبيات القبلية وامتداداتها الجوارية والمذهبية.
كل هذه الرياح الدولية والإقليمية الباردة ستواجه الجامعة العربية في الفترة الفاصلة بين قمة الدوحة والقمة المقبلة. والرياح الباردة قد تنقلب موضعيا إلى ساخنة إذا لم تتوصل الدول العربية إلى ترتيب علاقاتها الكيانية ضمن ضوابط تنظيمية ودفتر شروط يحصن قدراتها ويعزز إمكاناتها على الصمود والتصدي. وفي هذا الإطار لابد من إعادة قراءة المشروع اليمني بشأن تطوير الجامعة إلى اتحاد وأخذ المسألة بجدية باعتبار أن الصيغة التي تم التوافق بشأنها في أربعينيات القرن الماضي لم تعد قابلة للتطور أو التكيف لاستيعاب هذا الكم من المستجدات والاستحقاقات.
الجامعة فكرة تقارب صورة الخيمة وهي مظلة أخوية تجمع الأشقاء أفقيا بالتساوي والتكافل والتضامن والإجماع. وهذا النوع من التفكير في العلاقات أدى إلى تخلف الجامعة التنظيمي وعدم قدرتها على الإشراف وترتيب آليات لتنفيذ المشروعات أو الاتفاقات التي يتوافق عليها خلال الدورات السنوية.
اقتراح نقل صيغة المنظومة العربية من طور الجامعة إلى طور الاتحاد يعتبر خطوة إيجابية لإعادة هيكلة العلاقات وترتيبها في إطار مؤسساتي متقدم يتجاوز «الخيمة» و»المظلة». فالاتحاد فكرة تتجاوز التجمع الأخوي لأنها تعيد صوغ وظائف تساوي الأشقاء في سياق عمودي (هرمي) ينظم الاتفاقات والمشروعات في قنوات تتحرك آليا كما هو حال الاتحاد الأوروبي الذي ربط بين الدولة (الوطنية) والإطار القاري للسوق المشتركة.
حال الوضع العربي بعد قمة الدوحة يمكن أن يتقدم أو يتأخر إلا أن ضمان استمراره على الحد الأدنى من التماسك والتواصل يتطلب إعادة تعريف لوظائف جامعة الدول وموقعها القومي في إطار حماية الأمن وتوازن المصالح حتى تكون على سوية معقولة لمواجهة تلك الاستحقاقات الكثيرة التي تنتظر المنطقة العربية في السنة الجارية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2397 - الأحد 29 مارس 2009م الموافق 02 ربيع الثاني 1430هـ