لا يعرف متى ولد ابن سينا (الشيخ الرئيس)، فهناك خلاف على التوقيت. البعض يقول في العام هـ. والبعض الآخر يقول في العام هـ (م). ويرجح المؤرخون ان التوقيت الثاني هو الأصح. إلا أن المنطق يرجح ان التوقيت الأول هو الصحيح حتى تستقيم تلك الروايات التي تتحدث دائماً عن الطفل النابغة. فالفارق بين التوقيتين ثماني سنوات فقط، إلا أنها كانت كافية لإعطاء تلك المسحة الأسطورية عن الطفل المعجزة الذي ارتقى في علومه ودراساته ومعارفه إلى درجة لم يصلها غيره من قبل.
وبين الأسطورة والمنطق انتصرت الأسطورة ومال المؤرخون إلى ترجيح ولادته في التوقيت الثاني. وبناء عليه نسجت تلك الحكايات عن ذاك النابغة الذي تقدم في درجات المعرفة وامتدت شهرته إلى الآفاق وهو لايزال في سنوات الطفولة والشباب.
هل عاش ابن سينا أسطورته (الحديث عن طفولته ونبوغه المبكر)، أم نسجت الحكايات عنه بعد رحيله؟ من الصعب الجزم في تقديم الجواب. إلا أن كهولته (شيخوخته) المضطربة تكشف عن ذاك الفراغ الذي عانى منه هذا الطفل حين دخل عالم الكبار وتفوق عليهم وهو في سن صغيرة. فسيرة ابن سينا غريبة بعض الشيء. فهل رويت عنه (كتب نصف سيرته وتكفل صديقه وتلميذه الوفي أبي عبيد الجوزجاني في النصف الآخر) بعد رحيله أم عاش في ظلها في أيامه الأخيرة؟ هنا أيضاً من الصعب الجزم في الجواب. إلا أن السيرة تذكر أنه نبغ في سن مبكرة (عشر سنوات) ودرس الطب وبدأ بالمعالجة وهو في من عمره، وبرز في مختلف العلوم وهو ابن سنة. وحين توفي والده كان في من عمره وبلغت شهرته الآفاق.
هذا الكلام عن النبوغة ينسجم كثيراً مع توقيت ولادته في العام هـ، كذلك يوضح تلك الاشارات التي ذكرها عن نفسه وأظهر فيها براعته وتفوقه على جيله وثقته الزائدة بمعارفه وعلومه. أما إذا كان التوقيت الآخر (هـ) هو الصحيح تصبح الأسطورة معقولة ومفهومة بعض الشيء. أي نبغ في سن من عمره، ودرس ومارس الطب وهو في من عمره، وبرز في مختلف العلوم وهو في من عمره. وتوفي والده وهو في من العمر... إلى نهاية قصته. وقصة ابن سينا تنتهي بحسب رواية الأسطورة في العام هـ (م) والمنطق في العام هـ (م) والفارق بين الروايتين في المجموع العام بين و سنوات. فبحسب الأسطورة توفي في من عمره (رواية أخرى تقول سنة) وبحسب المنطق كان في من عمره.
هذا الاختلاف مهم لأنه يرتبط إلى حد بعيد بمدى اكتشاف ابن سينا لنفسه وهو في سن مبكرة أو أنه اكتشف نبوغه في كهولته وشيخوخته وقبل سنوات من رحيله. الأمر الذي يفسر ذاك الانهيار الاجتماعي النفسي الذي أصابه حين بلغ فترة متقدمة من عمره. وهذا الاختلاف ما يميز ابن سينا وما يمتاز به عن طفولة ذاك الفيلسوف الآخر الذي ولد في فاراب.
حين ولد ابن سينا من أب فارسي في أفشنه من قرى بخارى كان مضى على رحيل الفارابي سنة. والفارق بين الفيلسوفين لم يقتصر على اختلاف العصر وتبدل الظروف، وإنما شمل أيضاً الكثير من الفضاءات المتعلقة بالمنشأ والبيئة والموقع الاجتماعي. فالفارابي من عائلة متواضعة درس القضاء وتعلم الموسيقى واجتهد على نفسه وتعب وكد في حياته ليستقر أخيراً في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب. أما ابن سينا فقد جاء من عائلة مستقرة اجتماعياً تعيش في مستوى متقدم من حياة الرغد والرفاه. فابن سينا وزير ابن وزير وتربى في عهدة أساتذة ورجال دولة وعاش وراقب واستمع إلى تلك النقاشات الفكرية التي كانت تعقد في دار أهله. ولاشك في ان تلك الجلسات والحلقات اثرت في تربيته وأسهمت في تطوير وعيه ودربته على الاستماع والجدل والحوار والبحث في المسائل الدقيقة والمعقدة.
هذا الوعي المبكر ترك لاحقاً بصماته السلبية في شباب وكهولة ابن سينا حين غادر عناء البحث ليعوض طفولته الغائبة في شيخوخة وجدت في الغناء والشراب الملاذ الآمن لملذات مفقودة. فهذا الطفل/ الشيخ انقلب في سنواته الأخيرة إلى الشيخ/ الطفل بحثاً عن زمن ضاع في زحمة الكتب والمقالات والمكتبات.
بين الطفل والشيخ الرئيس كانت هناك علاقات تتراوح بين الانسجام والتوتر، الأمر الذي أفقد ابن سينا ذاك السلام الداخلي المطلوب. فالطفولة المستقرة والسعيدة تحولت في الشيخوخة إلى حياة مضطربة تعيش تناقضات داخلية بين الوعي الذهني المتقدم والفراغ النفسي المتوتر والدافع نحو الملذات والشهوة. فالشيخوخة انتقمت من الطفولة وعوضت ما فاتها من حياة صبا ومراهقة.
في طفولة ابن سينا يكمن مفتاح شخصيته التي تفرقت في كهولته، فالطفولة كانت هانئة ومستقرة اعطته كل ما يريده أو يحلم به من سعادة لا تتوافر في ذاك الزمان لكل الناس. والسعادة التي حصل عليها هذا الطفل كانت لذة البحث عن المعرفة، الأمر الذي حرمه الكثير من لذات أخرى بحث عنها ولم يجدها إلا حين رحل والده عن الدنيا واستقل ابن سينا بدنياه وأخذ يطوف بها إلى ان انفجرت تلك المكبوتات في سن الكهولة والشيخوخة. فشخصيته التي تطورت قسراً تركت لاحقاً فجوات نفسية في حياته.
قصة ابن سينا تختلف عن قصة الفارابي، فهو توفي في سن مبكرة على عكس الفارابي، لكنه كتب عشرات المجلدات منذ حداثة عمره. وظروف قصته تختلف بل تتناقض عن تلك التي عاشها الفارابي. فالبيئة مختلفة وتركيب الأسرة مختلف، كذلك عصره وحياته وعلومه ومهنته. هذه الفضاءات المختلفة أسهمت في ولادة فيلسوفين تجمعهما الكثير من الأمور على مستوى المنطق والرياضيات والمعارف واللغة والأدب وتفصلهما الكثير من الأمور المتعلقة بالسلوك الشخصي والموقع الاجتماعي والمهنة التي يعتاش منها.
هذا الاتفاق/ الاختلاف أنتج فلسفتين متقاربتين في الرؤية ومتباعدتين في المنهج. فالفارابي (الموسيقي) لجأ إلى التوليف والتركيب والدمج بين المتناقضات بحثا عن انسجام نظري أراد تجسيده في مدينة منظمة إدارياً وفق منظومته الفلسفية. وابن سينا (الطبيب) لجأ إلى التشريح (التحليل) كما يشرح الجراح بدن الإنسان. فمنهج ابن سينا أقرب إلى التفكيك، بينما مال الفارابي إلى التركيب. وهذا الاختلاف المنهجي يعود إلى اختلاف المهنة، مضافاً اليها البيئة والتركيبة والأسرة والموقع الاجتماعي وطفولة اسست بنية ذهنية وذاكرة وذكريات لم تكن متشابهة نظرا لتغير حركة المكان والزمان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 882 - الخميس 03 فبراير 2005م الموافق 23 ذي الحجة 1425هـ