الرجل الذي كان أكثر من العراقيين حماسا للانتخابات العراقية كان يجلس في مكان يبعد آلاف الأميال عن العراق. فجورج بوش الذي بدأ لتوه مدة حكم ثانية في البيت الأبيض دعا العراقيين إلى استغلال الفرصة التاريخية وانتخاب ممثلين عنهم في البرلمان وكأن شيئا لم يكن. ولاشك أن بوش نسي نقطة مهمة تتعلق بأمن الناخبين العراقيين. لاشك أن بوش كان يعلم أن كل عراقي غادر منزله يوم الأحد للإدلاء بصوته في أحد مراكز الاقتراع كان مهددا بالقتل. وهكذا تمت أول انتخابات عراقية تحت الاحتلال وسط أفراح وأتراح، أهازيج وعزاء، فكل التناقضات كانت موجودة في العراق.
كما كان متوقعا قام الناخبون الشيعة بانتخاب مرشحيهم، مثلما انتخب الأكراد مرشحين أكرادا، بينما قاطع السنة الانتخابات. وعلى رغم أن النتائج النهائية ستعلن في الأسبوع المقبل إلا أن المراقبين في الغرب أيضا يعتقدون أن الائتلاف العراقي الموحد الذي يتزعمه الزعيم الشيعي آية الله السيدعلي السيستاني سيخرج من الانتخابات كأكبر قوة سياسية مؤثرة في العراق الجديد.
شيعة العراق الذين عانوا من الاضطهاد والبطش والظلم خلال الحكم السابق، حصلوا على فرصة تاريخية لبناء عراق جديد قد يصبح أكبر بلد شيعي بعد إيران. وعلى رغم تأكيدات السيستاني وعبد العزيز الحكيم أن شيعة العراق لا يؤيدون قيام جمهورية إسلامية على النمط الموجود في إيران، إلا أنهم أشاروا إلى أهمية أن يلعب الإسلام دورا بارزا في العراق الجديد.
ويجلس أكراد العراق في مركب واحد مع الشيعة وإن كانوا يختلفون عنهم في الأفكار. فالهدف غير المعلن للأكراد هو إعلان دولة كردستان في شمال العراق حين تسمح الظروف السياسية بذلك. ومن يلقي نظرة على الأوضاع في المناطق الكردية بشمال العراق سيتبين له أن الأكراد يعيشون بصورة مستقلة عن العراق مذ تم فرض حظر جوي في أجواء شمال العراق، وأصبحت طائرات التحالف تحمي المناطق الكردية، إلى الحد الذي يدفع المراقبين إلى القول أن الأكراد من الناحية العملية انفصلوا منذ ذلك الوقت عن العراق، لكن مصلحتهم في الظروف الحالية لا تقتضي إعلان استقلالهم رسميا عن العراق. وهذا عائد أيضا إلى رغبة الولايات المتحدة بعدم تحمل ذنب تقسيم العراق خصوصا وأن الحكومات الحليفة لها في منطقة الخليج حذرت على الدوام من مخاطر تقسيم العراق على المنطقة برمتها.
المهم بالنسبة إلى الرئيس الأميركي وحليفه البريطاني طوني بلير أن الانتخابات تمت باعتبارها إنجازا كبيرا لائتلاف الحرب. وهكذا يريد بوش أن يقول لخصوم حرب العراق أنه كان على حق في دعوته إليها، وأنه يقوم بواجباته نحو العراق على أكمل وجه، ووفقا لميثاق الأمم المتحدة الذي يحمل الدولة المحتلة كامل المسئولية تجاه البلد الذي تحتله.
ويرى بوش أن الانتخابات العراقية خطوة جيدة على طريق تحقيق الديموقراطية في العراق، ولاحقا في سائر البلدان العربية. وبالنسبة إليه سيان أن تكون نسبة 30 أو 40 بالمئة من الناخبين اعتكفوا في بيوتهم وقاطعوا الانتخابات. وهو الرئيس الذي يفعل من دون أن يفكر، أو أنه يترك التفكير لكونداليسا رايس وغيرها من الصقور في إدارته. فماذا يمكن الاستفادة منه من الانتخابات العراقية "التاريخية"؟
ربما كان ملك الأردن عبدالله الثاني رجلا صريحا، حين عبر بكلمات قليلة عما يرعب بعض زملائه من الحكام العرب، حين أعرب علانية عن خشيته من ظهور هلال شيعي يمتد من إيران مرورا بالعراق وصولا إلى سورية ولبنان، وهو الهدف الذي يدفع الولايات المتحدة للقيام بكل ما أوتيت من قوة لمنع تحقيقه. وربما يكون من سخرية القدر أن ما حاولت الولايات المتحدة الوقوف في وجه تحقيقه طويلا، أصبحت سياستها اليوم تؤدي باتجاهه من دون أن ترغب وتريد!
يتوقع المعلق الألماني رودولف خميللي المعروف بخبرته في الشئون الإيرانية أن تجري عملية تغيير جديدة لموازين القوى في المنطقة بمجرد أن تصدر النتائج النهائية للانتخابات، وكما هو متوقع سيحصل الشيعة على الأغلبية الواضحة. وهذا ما حصل أيضا حين استجابت الحكومة الجزائرية في مطلع التسعينيات لضغوط الغرب ووافقت على إجراء انتخابات برلمانية أسفرت نتائجها عن فوز الإسلاميين بأغلبية واضحة. هذا الفوز الذي ساهم في اندلاع حرب أهلية دامية دامت سنوات طويلة وكلفت آلاف الضحايا. من هنا يتنبأ خميللي بأن يسهم فوز الشيعة في العراق بتشجيع الشيعة في دول أخرى يشكلون فيها الأغلبية على المطالبة بانتخابات حرة ونزيهة تساعدهم في المشاركة في السلطة.
إذا كانت رغبة الرئيس الأميركي أن تجري الانتخابات مقابل أي ثمن فإن الثمن الذي دفعه العراقيون لهذه الانتخابات كان غاليا. فإلى جانب إحصاء أصوات الناخبين يجري في المستشفيات إحصاء عدد القتلى إذ لم تتوقف أعمال العنف والتفجير. لكن العنف لم يمنع العراقيين من التعبير عن رغبتهم في رسم صورة مستقبل بلدهم بأنفسهم أملا بأن تسهم الانتخابات الديموقراطية في جلاء الاحتلال والخروج من واقع التفجيرات واستهداف المدنيين والابرياء الذين يسقطون يوميا بالعشرات. فهل تشكل الانتخابات انعطافة في تاريخ العراق؟
يعلم بوش أكثر من غيره أنه من المستحسن عدم التسرع في الحكم على الأمور وتجنب أخطاء وقعت في الماضي، كان أولها المضي بالحرب في مارس/آذار 2003 ثم إعلان نهاية المعارك الرئيسية في الأول من مايو/أيار من العام نفسه، ولاحقا تسليم السلطة لحكومة عراقية مؤقتة لا تتمتع بتأييد جميع العراقيين. ولا ينبغي صرف النظر عن حقيقة مهمة وهي أن الانتخابات قد لا تحسن شروط الحياة بالنسبة إلى العراقيين، فالوضع الأمني مستفحل، وهناك شحة في الوقود وانقطاع مستمر للماء والكهرباء، ناهيك عن عدم توفر فرص العمل. الوضع الأمني بالذات سيء كما كان قبل الانتخابات، لذلك يمكن القول أن الانتخابات لم تجعل العراقيين يشعرون بالأمن.
ربما توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع رغم الخطر يكشف عن رغبتهم القوية في تغيير واقعهم السيء والانتقال إلى مستوى معيشي أفضل ليعيشوا مثل سائر شعوب العالم. لكنهم عبروا أيضا عن وجود حدود للديموقراطية العراقية التي بالتأكيد لن تكون نموذجا تحتذي به باقي دول المنطقة. فقد انتخب الشيعة مرشحيهم للحصول على السلطة، كما انتخب الأكراد مرشحيهم للمضي في خلق الكانتون الكردي في شمال العراق. وليس هناك ما يشير إلى أن الأحزاب والتحالفات العراقية مهتمة بالوفاق الوطني أكثر من اهتمام كل منها باقتناص نصيبه من الكعكة. والمؤكد بعد مقاطعة السنة الانتخابات أن الخلافات بين الفئات العراقية زادت عمقا. طبعا بوش سيعبر عن فرحته عند تشكيل حكومة عراقية جديدة قائلا أن الولايات المتحدة والعالم الحر ساهما في تشكيل حكومة عراقية منتخبة ديموقراطيا. لكنه لن يجرؤ على القول أن الشعب العراقي أصبح يشعر بالأمن ولم يعد يتذمر لعدم توفر البنزين وانقطاع الماء والكهرباء
العدد 881 - الأربعاء 02 فبراير 2005م الموافق 22 ذي الحجة 1425هـ