العدد 881 - الأربعاء 02 فبراير 2005م الموافق 22 ذي الحجة 1425هـ

لست وحدك تستطيع أن تضرب

الوسط - محمد الرديني 

تحديث: 12 مايو 2017

ذات يوم عرض التلفزيون النيوزيلندي فيلما وثائقيا بمناسبة مرور 200 سنة على اكتشاف نيوزيلندا من قبل الأوربيين. هذه الجزيرة التي صنعها بركان ضخم ثار ذات يوم في وسط مياه المحيط الأطلسي. كانت ثورته صاخبة عنيفة كما يقول العلماء. لقد قذف المحيط الهادئ أحشاءه إلى أعلى ما يستطيع فوق المياه نحو السماء. عادت تلك الحمم البركانية الضخمة إلى الأرض، فكانت الجبال الخضراء ثم الأراضي المنبسطة، ثم السهول وينابيع المياه العذبة والشلالات.

بعد أن استقرت هذه البراكين على الأرض أنتجت الهواء النقي والأمطار الغزيرة صيفا وشتاء، وبانت ملامح الجزيرة التي أصبحت الآن مضطجعة باسترخاء تام على خاصرة المحيط الهادئ. عرفت هذه الجزيرة بسكانها الأصليين "الماوري"، الذين خاضوا حروبهم الأولى مع جيرانهم في الجزر المجاورة قبل أكثر من ألف سنة، وكانوا مثلهم مثل شعوب الجزر الأخرى في العالم القديم لا يعرفون القراءة والكتابة، يعيشون على الصيد، الوسيلة الرئيسية التي تبقيهم على قيد الحياة. وهم في سحنتهم وبشرتهم البنية وبنيتهم القوية لا يختلفون كثيرا - حتى في عاداتهم وطباعهم - عن عرب بادية الجزيرة العربية.

كانت لديهم أغانيهم الخاصة، خصوصا تلك الأغاني التي تصدح بها الحناجر خلال مراسيم الزواج أو الوفاة. وكانت لديهم أيضا أساطيرهم الخاصة، وأشهرها أسطورة نشأة الأرض والسماء.

تقول الأسطورة: "في البدء لم يكن هناك نور. الظلام سبق النور على الأرض، لأن آلهتي السماء والأرض كانتا متحدتين مع بعض. إله السماء تزوج "رانجي آلهة الأرض "بابا". اتحدا مع بعض ولم يسمح للنور أن يفصل بينهما. وفي الزمان الغابر أمر بابا "إله السماء" رانجي "آلهة الأرض" أن تجعل الأرض ممتدة، وقبل ذلك كان الاتحاد بين السماء والأرض، وهو الحب والالتصاق اللذين استمرا دهورا طويلة، وكان ثمرة هذا الحب العظيم ستة آلهة أنشأوا الجزر والأشجار والحيوانات والبحر ومخلوقات أخرى عظيمة، وكلهم كانوا يعيشون في الظلام. كان "ناواهيري ماني" إله الرياح والعواصف، و"تانغارو" إله البحار وكل المخلوقات التي تعيش فيها، و"هوماي تكي تكي" إله الطعام الذي يمنحه للبشر، و"رونجو ماتان" إله الخصب والنماء، و"تانا ماهاتا" إله الغابات وكل ما يعيش فيها، وأخيرا "توماتونغا" إله الحرب والغزوات".

وتمضي الأسطورة قائلة: "تعب الآلهة الستة من هذا الظلام المحيط بكل شيء، وقرروا أن يغطوا الكون بالنور من دون معرفة الأبوين. وفي لحظة من تلك اللحظات الخارقة شع النور وغمر الكون كله، ولم يكن يعرف هؤلاء الآلهة أن هذا النور سيفصل الأبوين عن بعضهما. انفصل المحبان عن بعضهما، وأصبحا العاشقين الملتصقين بعيدان عن بعضهما، وحين افترق العاشقان عن بعضهما ظلت بابا "آلهة الأرض" تبكي حبيبها رانجي "آلهة السماء" الذي كان يبتعد كثيرا كلما مرت الدهور".

كان أول من حط رحاله في هذه الجزيرة هو البحار "كيوب"، كان ذلك في نهايات القرن العاشر قادما إليها من جزيرة هاواكي التي لا تبعد عنها كثيرا، سماها جزيرة الغيوم البيضاء، بعد أن وجد أن هذه الغيوم تحيط بها من كل جانب. ونقل في مذكراته ما كان يردده الماوريون عن نشأة هذه الجزيرة: "منذ آلاف السنين وبعد أن خلقت الأرض واستوت، خلق الآلهة تان ماهوتا إله الجميع امرأة من تراب الأرض الأحمر، رآها جميلة جدا فتزوجها وأنجبت منه بنتا ليس لها مثيل في الجمال. وبعد سنوات أنجبت هذه المرأة طفلا ليس في روعته أحد، هذا الطفل كبر ونما وأصبح شابا. كان نصف الآلهة "ماوي" الذي يعيش في "هاواكي" هو نفسه الشاب اليافع الذي كبر ونما. وفي يوم من الأيام ذهب "ماوي" كعادته للصيد حاملا معه صنارته السحرية المصنوعة من فكي إحدى العجوزات الساحرات. دخل "ماوي" إلى عرض البحر، ولكن هذه المرة ذهب بعيدا إلى عمق البحر، وفي مكان ما رمى صنارته السحرية إلى أعماق البحر، وسرعان ما اصطاد سمكة عملاقة، استغرق وقتا طويلا في سحبها لقاربه، هذه السمكة العملاقة استقرت على الأرض الحمراء سنوات طويلة، واتسعت هذه الأرض لأن السمكة العملاقة زادتها اتساعا، هذه الأرض الواسعة الخضراء هي نيوزيلندا".

ولعل أشهر المكتشفين لهذه الجزيرة هو الكابتن البريطاني "كوك" في نهايات القرن الثامن عشر. ويبدو أن هذا البحار المحنك كان على درجة كبيرة من الذكاء وسعة الحيلة، إذ سرعان ما عقد صداقات حميمة مع الماوريين الذين وجدهم أناسا عاديين لهم نفس دماء البشر بعكس ما كان يتصوره البحارة الذين سبقوه بأنهم كانوا من أكلة لحوم البشر.

وانهالت على الجزيرة بعد ذلك حملات التبشير. جاء رجال الدين من أوروبا وكل يحمل مذهبه بيده. وفي العام 1856 أصبحت هذه الجزيرة مستعمرة بريطانية. وفي العام 1947 استقلت نيوزيلندا عن التاج البريطاني، ولكنها أصبحت إحدى دول الكومون ويلث.

نعود إلى حديثنا عن الفيلم الوثائقي الذي عرضه التلفزيون بمناسبة مرور 200 سنة على اكتشاف نيوزيلندا. لم يخجل هؤلاء النيوزيلنديين من عرض الحقائق كما هي حينما أتاحوا للمشاهد الفرصة ليعرف كيف احتل البريطانيون هذه الجزر، وكيف استعملوا السياط في إرغام سكانها الأصليين على العمل معهم بالسخرة. لقد أراد المخرج أن يقول ببساطة: إذا كانت هذه السلوكيات تثير الآن قرف هذا الجيل والأجيال المقبلة، فإن القرف الحقيقي أن بعض الأنظمة في هذا العالم مازالت تعيش بالعقلية نفسها حتى الآن.

ضحك صاحبي الذي كان يشاهد هذا الفيلم معي، ولأني أعرف صاحبي جيدا فقد سألته عن سبب هذه الضحكة الحزينة فقال: "ذات يوم وقف أبي أمامي وهو يمسك سيخ الحديد، وحسبته لأول وهلة أنه سيفطر رأسي به، ولكني سمعته يقول: تذكر يا بني حين تمسك هذا السيخ فإن هناك أياد أخرى تستطيع أن تمسك أسياخا أخرى، وليست يدك وحدها التي تستطيع أن تضرب به، فالأيادي الأخرى تستطيع أن تفعل مثل ما تفعل أنت تماما"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً