تجاوزت التنظيمات السياسية عدة عقبات، في سعيها للبحث عن دور سياسي ضمن المشروع الإصلاحي الذي بدا مدركا أن واحدة من آليات تخفيف الاحتقان الذي طال أمده، سيكون عبر فتح باب للمشاركة الشعبية المؤسسية والمقننة، وليس عبر سياسة "الباب المفتوح" فقط، التي قد لا تخلو من إيجابيات، بيد أنها تظل شكلا تقليديا لا يمكن أن يستجيب لمتطلبات الديمقراطية القائمة على الحقوق والواجبات، من دون أن يعني ذلك إلغاء أو تجاهل الأعراف والتقاليد الحسنة، بما في ذلك المجالس المفتوحة، التي يمكن استثمارها للتشاور لما فيه خير الصالح العام.
ولما كانت المشاركة في العملية الانتخابية أحد أهم الخطوات في سبيل المساهمة في صنع القرار، فإن دعم مترشحين في الانتخابات النيابية أو البلدية يأتي على رأس أولوية أي حزب سياسي، أو هكذا يفترض.
يمكن الإشارة إلى ثلاث محطات على الأقل، خاضتها الحركة السياسية الراهنة، لبلوغ مشاركة ذات تأثير في العملية الانتخابية. محطتان تم تخطيهما، إلى حد كبير، إما بفعل الأمر الواقع "تجميد المادة 18 من قانون الجمعيات الأهلية لسنة 1989 التي تحظر على المنظمات المدنية العمل السياسي"، أو بفضل إجراء تغيير قانوني كما حدث بإلغاء الفقرة "ب" من المادة "22" من قانون مجلسي الشورى والنواب، التي "تحظر على الاتحادات والجمعيات والنقابات القيام أو المشاركة في أية دعاية انتخابية لأي مرشح".
أما المحطة المرتقبة "الثالثة"، فتتعلق بإلغاء العبارة الأخيرة من المادة "25" من القانون المذكور، والتي "تحظر على المرشح تلقي أية أموال للدعاية الانتخابية من أية جهة كانت"، أو تقنين جديد للتنظمات السياسية، بما يسمح لها بإعداد قوائم للمترشحين ودعمهم ماليا وسياسيا، وعلى الأرجح يمكن تخطي هذه العقبة، من خلال استقراء ردود فعل السلطات في المحطتين السابقتين.
المحطة الأولى تتعلق بالمادة "18" من قانون الجمعيات الأهلية، التي تحظر عليها العمل السياسي. ومع مطلع المشروع الإصلاحي، وجه جلالة الملك إلى تجميد هذه المادة، لكن هذا التجميد لم يلغ النص. وفتح ذلك الفرصة لتشكل جمعيات سياسية، لا تحتوي أنظمتها الأساسية على المادة المذكورة، بيد أن هذه الجمعيات ظلت في الخطاب الرسمي المكتوب جمعيات "ذات الشأن العام"، لا جمعيات سياسية، بحسب ما يصنفها دليل وزارة الشئون الاجتماعية.
كما استخدمت المادة "18" للضغط على الجمعيات السياسية، قبيل الانتخابات النيابية الماضية، وربما يتذكر كثيرون تصريحات وزير العمل السابق عبدالنبي الشعلة الذي أوضح أن "تجميد المادة "18" لم يحدث، والجمعيات "السياسية" التي رخص لها من دون أن توضع المادة المذكورة في نظمها الأساسية، لا يعطل المادة ولا يلغيها، وبالتالي على الجمعيات اتباع القانون، الذي يحظر تعاطي النشاط السياسي". وحينها فهم كلام الوزير الشعلة على أنه حظر للعمل السياسي، ذلك لأنه لا يوجد شيء في القانون اسمه "تجميد"، فيما بدا الكلام الأهم للوزير السابق محمد المطوع، بتمييزه بين "الاشتغال" و"الانشغال" في السياسة، وعدم حق الجمعيات في إعداد قوائم للمترشحين.
الواقع على الأرض تجاوز ذلك، وأصبحت الجمعيات السياسية ناشطة، وتتحرك بحرية واسعة، بيد أن لدى السلطات من الإمكانات ما يؤهلها "لضبط إيقاع" هذه الجمعيات إذا استدعى الأمر، وفي هذا فإن تقنينا ينظم نشاط هذه الجمعيات أصبح لازما، ليؤكد حقها الأكيد في التنظم والحركة.
وهذا ينقلنا إلى المحطة الثانية، والتي بدت أكثر رسوخا، حين استجاب جلالة الملك مرة أخرى لنداء الجمعيات السياسية، في ظل الدعوة لمقاطعة الانتخابات النيابية الماضية، وأجرى تعديلا في قانون مرسوم بقانون رقم "15" لسنة 2002 بشأن مجلسي الشورى والنواب، بإلغاء الفقرة "ب" من المادة "22"، ما فتح الباب واسعا للجمعيات السياسية لإعلان قوائم انتخابية في الانتخابات النيابية. ويمكن ملاحظة أنه بينما جمدت المادة "18" فقط، من دون أن تشطب من القانون، فإن المادة "22/ب" ألغيت نهائيا.
ويرى متابعون أن وضع المادة "22/ب" جاء في ضوء اكتساح مترشحي جمعية "الوفاق" المعارضة لمقاعد الانتخابات البلدية الماضية، ما جعل السلطة تعد قانونا يقيد نشاط المعارضة، علما بأن قانون البلديات لا توجد فيه تقييدات لجهة الدعم المالي أو غيره للمترشحين، وهذا مدخل للجمعيات وكذا لغرفة التجارة "التي تبحث عن مدخل قانوني للمشاركة في اللعبة السياسية"، إن شاءت التأثير في هذه المؤسسات ذات الطابع الخدمي، والتي تقوم بجهد لا يستهان به، وقد يتزايد دورها مع تراكم الخبرات.
المحطة الثالثة، تتعلق بالحاجة إلى إلغاء الفقرة الأخيرة من المادة "25" من قانون المجلسين، والتي تمنع المترشح من تلقي أموال من "أية جهة". فوجود هذا النص لا يعطي معنى لإلغاء المادة "22/ب"، إذ كيف للجمعيات أن تدعم مترشحا لا يمكن له تلقي مساعدات؟
ويبدو لي أن محاولة قراءة النص في أن المنع لا يشمل الدعم اللوجستي "طباعة بوسترات، فانيلات، توفير خيام، سيارات، طعام..."، وإنما يحصره في منع تلقي "أموال" لن يكون كافيا، ذلك أن السلطات يمكن أن تفسر منع تلقي الأموال على أنه حظر للدعم المالي المباشر أو غير المباشر.
يمكن الإشارة إلى أن السلطات كانت غضت الطرف عن أشكال الدعم المالي للمترشحين في الانتخابات النيابية الماضية، بل وقدمت مساعدات إلى جمعية المنبر التقدمي والأصالة والجمعيات الأخرى المشاركة، ويقال إن الدعم حينها طال الجمعيات المقاطعة أيضا.
وللأسف فإن هذا الدعم ظل غير معلن. وهنا الخطورة في الواقع، لا في الدعم نفسه، سواء جاء من الجهات الرسمية أو الأهلية. إذ يجب أن يكون تلقي المساعدات معلنا وشفافا، لضمان ألا يتأثر المرشح "النائب مستقبلا" بأخذ رشى من تحت الطاولة للدفاع عن مصالح ذات طابع "ضيق".
قرار حظر المادة "18" من قانون الجمعيات، وإلغاء المادة "22/ب" من قانون المجلسين، يسري على المنظمات الأهلية كافة الراغبة في الانخراط في اللعبة السياسية، بما في ذلك غرفة التجارة والصناعة، التي تعد - عمليا - اتحادا أو جمعية، وليس شيئا آخر، وإذا أتيح لغيرها حق الدعم، فلها هي أيضا أن تدعم من تؤمن به، في ضوء تفسير يرى أن الدعم المالي أو المعنوي لطرف ما، هو في جوهره تعبير عن الرأي، ومعناه هو منع حق دستوري أصيل.
كما جمدت السلطات مادة، وألغت أخرى، فيمكن لها التحرك لتغيير المواد المقيدة لنشاط الجمعيات، والخشية أن تتحجج السلطات بأن ذلك يستدعي تدخلا أو مبادرة من المؤسسة التشريعية، القليلة الحيلة، ما يعني استمرار حال الضبابية في دور المنظمات السياسية في العملية الانتخابية، وهو الأمر الذي يضع على مجلسي الشورى والنواب ثقلا أساسيا في تحريك الملف، إما بالإفراج عن قانون التنظيمات السياسية أو بأية خطوة أخرى تضع حدودا واضحة لعلاقة الجمعيات بالمترشحين
العدد 880 - الثلثاء 01 فبراير 2005م الموافق 21 ذي الحجة 1425هـ