حين تحدثنا في المقال الماضي، عن الأسلوبين الأميركيين، الناعم والخشن للتدخل في بلادنا لفرض الديمقراطية المعلبة، وعن التجارب السابقة التي حقق فيها هذا التدخل نجاحا ملحوظا، من انتخابات إندونيسيا إلى صربيا، وكرواتيا، أوكرانيا وجورجيا، بفضل "فرق تنظيم الثورة الديمقراطية"، اندهش بعض القراء، واستنكر آخرون، معتبرين ما قلناه نوعا من الدعاية السوداء ضد الصديق الأميركي! وها نحن نزيد الموضوع وضوحا، ليس لمجرد الرد على حملات "المتأمركين العرب"، ولكن أساسا لتنوير الرأي العام المنقسم سياسيا ونفسيا، بين معارض لمبدأ التدخل الأجنبي عموما في أدق دقائق الشأن الوطني والقومي، وهو انتخاب ممثله واختيار نائبه، وبين مرحب بهذا التدخل، بحجة أن لا أمل في تغيير الأوضاع القائمة، والتخلص من نظم الحكم الفاسدة والمستبدة، إلا بتدخل خارجي قوي وصارم! ولقد تحدثنا في المرة الماضية عن تحديات التغيير ومخاطر الضغوط على مصر في عام الانتخابات هذا، باعتبارها المرشحة الأولى، لتجريب أسلوبي الضغط الأميركي الناعم أولا ثم الخشن في النهاية. .. اليوم نتحدث عن انتخابات العراق التي جرت يوم الأحد الماضي، تحت شعار استعادة الديمقراطية للشعب العراقي، كما يروج الأميركيون وحلفاؤهم.
وبداية مازلنا نقول إن الانتخابات العراقية، بصرف النظر عن نتائجها الختامية هي ناقصة الشرعية منقوصة الصدقية، ومن ثم لا تعبر عن مجمل طوائف وفئات الشعب العراقي، لسببين ظاهرين، أولهما أنها تمت تحت إشراف ورعاية وإدارة وحماية قوات الاحتلال الأجنبي، وفي مقدمتها 150 ألف جندي أميركي، وثانيهما أنها تمت في ظل مقاطعة فئات معتبرة من الشعب العراقي، أبرزها طوائف السنة، التي لا يمكن تقرير مصير العراق من دونها ولا وضع دستور وإقامة حكم شرعي ووطني في غيبتها، مع كامل الاحترام للغالبية الشيعية المتحالفة مع الأقلية الكردية ولو مؤقتا!
وعلى رغم مهرجانات الدعاية البراقة، وحملاتها الإعلانية التلفزيونية باذخة التكاليف، إلا أن أقوى وأحدث جيش احتلال في العالم، لم يستطع أن يضمن سلامة أرواح الناخبين والمرشحين، لأن العنف المضاد كان أشرس، والنتيجة المتوقعة هي انقسام هائل في بلد يحكمه الاحتلال، وتتنازعه الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية، وتتحكم فيه شراسة القوة وعنف القتل المتبادل!
ما يهمنا الآن، هو التعرف على بعض تفاصيل "إعداد الحملة الديمقراطية للانتخابات العراقية"، من الذي وضعها، من الذي مولها ونفذها، هل سارت على الطريقة التي سبق أن نفذها مصممو "الثورة الديمقراطية" في أوكرانيا وجورجيا حديثا، أم أخذت أسلوبا وشكلا مختلفا؟
لن نجتهد ونؤلف شيئا من عندنا، ولكننا أمام تقرير مهم كتبه ونشره يوم 26 يناير/ كانون الثاني الماضي، أي قبل يوم الانتخابات العراقية بأربعة أيام فقط، كل من الكاتبين الأميركيين "كارل فيك، وروبين رايت"، عن كيفية تدريب وقيادة الحملة الانتخابية في العراق بصورة سرية، بحيث لا تظهر فيها المؤثرات الأميركية بشكل مباشر.
يقول التقرير: "من أجل جعل العراق نموذجا للديمقراطية في العالم العربي، بذلت ثلاث مؤسسات أميركية، هي المعهد الديمقراطي للشئون الدولية، والمعهد الجمهوري الدولي، والمؤسسة الدولية لنظم الانتخابات، جهودا مضنية على مدى ثلاثة عشر شهرا سابقة، لوضع استراتيجية هندسة الانتخابات العراقية، عبر مكاتبها المركزية في بغداد - داخل المنطقة الخضراء المحصنة - وفروعها في أنحاء العراق، وأنفقت نحو 90 مليون دولار على برامج تدريب بعض العراقيين على تنفيذ الحملة، إذ درب المعهد الديمقراطي وحده على سبيل المثال عشرة آلاف عراقي من مختلف الأحزاب السياسية".
يضيف التقرير "إن هذه المؤسسات الأميركية الثلاث، اعتمدت أسلوب تقسيم العمل فيما بينها، حتى لا يقع التعارض، ما بين محاضرات التوجيه ودورات التدريب والتنظيم والدعاية، وهو الأسلوب نفسه، الذي سبق اتباعه - كما يقول التقرير - في انتخابات إندونيسيا، اليمن ودول أوروبا الشرقية، وأثبت نجاحه...".
وبينما كانت "طلائع المارينز الديمقراطي"، تعمل في بغداد وغيرها من المدن والمناطق العراقية، تحت الخطر المقيم، وفي ظل حماية المارينز العسكري، كانت قواعده الرئيسية وخطوط إمداده ودعمه، تنتشر في دول الجوار الصديقة والحليفة، كما يقول التقرير. ويضيف، ان إحدى أهم العقبات أمام هذه المهمة الصعبة، لم تكن مخاطر هجمات المسلحين العنيفة والمفاجئة فقط، إنما كانت أيضا في نظرة رجل الشارع العراقي العادي، لمؤسسة أميركية جاءت مع القوات العسكرية، لتعليمه الديمقراطية، تحت شراسة القتال ولعلعة السلاح والانفجارات، وهي نظرة ساخرة غير مقتنعة.
فكيف تغلبت المؤسسات الأميركية الثلاث على مثل هذه النظرة؟ يقول التقرير، إن الرؤوس الكبيرة، فضلت استيراد خبراء من جنسيات مختلفة ليكونوا كتائب المدربين والمنظمين وراسمي الملصقات وواضعي الشعارات الذين يحتكون بالشارع العراقي ودورات التأهيل والتدريب، وكان معظمهم من البرازيل، فرنسا، الأكوادور، البوسنة، صربيا ودول أخرى، وبقي الأميركيون في الصورة الخلفية دائما، سواء في الأماكن الحصينة داخل بغداد، أوفي عواصم عربية وغربية قريبة!
ونستخلص من كل ما ورد في هذا التقرير الأميركي، أن "صناعة الانتخابات الديمقراطية" أصبحت صناعة ثقيلة ومكلفة وخطرة أيضا، وأنها تحتل أهمية خاصة في برنامج الرئيس بوش لنشر الديمقراطية ومحاربة الطغيان والاستبداد في العالم، كما قال في خطاب تنصيبه منذ أسبوعين، وأن معدل سرعتها سيزداد خلال السنوات الأربع المقبلة، لتحديث وإصلاح المجتمعات الفاسدة وتغيير نظم الحكم المستبدة، وخصوصا في العالم العربي والإسلامي، وأن الحلفاء الأوروبيين يباركون الأسلوب الأميركي هذا، سواء كان ناعما أو خشنا عند اللزوم، وأن اللعبة أثبتت نجاحها المذهل في دول أكثر تعقيدا مثل دول أوروبا الشرقية، الأمر الذي يغري بتكرارها من الآن فصاعدا.
من ناحيتنا لا نعتقد أن هذه اللعبة الديمقراطية، نجحت تماما في الانتخابات العراقية، بما يماثل نجاحها في دول أخرى، للأسباب التي سبق أن ذكرناها، والتي تميز الوضع العراقي تحت الاحتلال وفي ظل المقاومة المسلحة، والمقاطعة السنية خصوصا، لكن المؤكد أن حملة المارينز الديمقراطي، نجحت جزئيا، وخصوصا أن التقرير الأميركي سالف الذكر، يقول إنها اخترقت 400 حزب سياسي ومنظمة مدنية، من الأحزاب الدينية، حتى الأحزاب الشيوعية، التي راهنت على حكاية "جعل العراق بؤرة الديمقراطية" على أنقاض نظام صدام حسين الذي اضطهد الجميع، فمهد الأرض لقبول أي بديل حتى لو كان احتلالا أجنبيا!
بقيت أمامنا ملاحظتان مرتبطتان بحكاية المارينز الديمقراطية هذه...
الملاحظة الأولى، هي أن كاتبا وباحثا أميركيا معروفا، هو مدير مشروع الديمقراطية وحكم القانون، في مؤسسة "كارنيجي" الأميركية ذائعة الصيت "توماس كاروزرز"، طرح الأسبوع الماضي، مبادرة جديدة تحت عنوا: "الأسلوب الأفضل لدعم الإصلاح في الشرق الأوسط".
وبنى مبادرته على أساس أنه طالما أن التدخل الرسمي الأميركي في إصلاح الشرق الأوسط الذي تسميه إدارة الرئيس بوش "مبادرة الإصلاح والمشاركة" أصبح مكروها لسمعته السيئة بين الشعوب العربية والإسلامية، فإن علينا أن نطرح بديلا، يقوم على خصخصة هذا المشروع والمبادرة، وتسليمه إلى مؤسسة أهلية، كما حدث مع أوروبا وآسيا، وكما هو حال الصندوق القومي لدعم الديمقراطية في أميركا اللاتينية، وساعتها سيتمكن القائمون على مبادرة الإصلاح والمشاركة من التحرر من الطابع الرسمي، والعمل بحرية والتحرك بين الشعوب العربية ومنظماتها المدنية بمرونة أكثر... بشرط أن توفر الإدارة الأميركية التمويل اللازم وأن تبتعد عن الصورة!
الملاحظة الثانية، هي أنه بينما كانت أول أميركية سمراء تحلف اليمين القانونية في واشنطن وتتسلم عملها وزيرة للخارجية الأميركية - كوندليزا رايس - كانت سابقتها البيضاء وزيرة خارجية إدارة الرئيس السابق كلينتون من الحزب الديمقراطي مادلين أولبرايت، تجوب شوارع القاهرة وتجول على مجالس المثقفين وتلتقي السياسيين والصحافيين، بهدف "تقصي الحقائق والتعرف على وجهات النظر المختلفة في مصر بشأن الإصلاح الديمقراطي"، كما أعلنت طرحه، وانها بصفتها عضوا في مجلس الشئون الخارجية، ستقدم تقريرا عن زيارتها.
وعلى رغم أننا لا نعرف على وجه الدقة طبيعة هذه المهمة، ولا ما دار في الحوار مع كثير من رموز المجتمع المصري، فإن الملفت للنظر، هو ما نقلته بعض الصحف المصرية عنها، وخلاصته أنها - وهي المنتمية إلى الحزب الديمقراطي المعارض - تشكك في أسلوب الرئيس الجمهوري جورج بوش وأركان حكمه، الذي يسعى لفرض الديمقراطية فرضا وفورا على شعوب ودول المنطقة، إذ إن التدخل المباشر، أو حتى الدعم الأميركي المباشر لقوى المعارضة والإصلاح الديمقراطي، يمكن أن يستخدم سلاحا مضادا... هكذا تكلمت أولبرايت.
لكن في النهاية... علينا أن نستخلص الدرس المفيد، من جماع النماذج الثلاثة التي قدمناها، نموذج المارينز الديمقراطي في العراق، ومبادرة خبير مؤسسة كارنيجي، وتصريحات مادلين أولبرايت في القاهرة.
إذ إننا نرى أنها كلها تصب في تيار واحد، وإن اختلفت بعض ملامحه، تيار تصنيع وتصدير الإصلاح الديمقراطي بالأسلوب الأميركي، يستوي في ذلك إن جاء بالضغط الناعم، أو جاء بالتدخل الخشن، إن وقع بأسلوب مادلين، أو بأسلوب كوندليزا رايس.
خير الكلام:
يقول الشاعر العراقي الجواهري:
لنا حق يرجى بالتماس
وباطلهم ينفذ بالسلاح
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 880 - الثلثاء 01 فبراير 2005م الموافق 21 ذي الحجة 1425هـ