ألا تشعرون بالخوف؟ أو بالتردد؟ بالضعف؟ ألا تشعرون بأي من هذه الخصال البشرية الموجودة في كل فرد طبيعي؟ طبعا لديكم أحلامكم وطموحاتكم وأمانيكم المعلنة منها والتي تحتفظون بها لأنفسكم، لكن أليس الناس في النهاية هم ذلك المزيج من الاماني والأحلام والطموحات والشجاعة والجرأة والصراحة والعناد والخوف والتردد والضعف احيانا؟ أي قيمة تبقى للذكاء مثلا ان هو ارتبط بالتهور والطيش؟ وأي قيمة للذكاء أيضا إذا ظل مكتوما وحبيسا لدى الإنسان؟ وأي قيمة للذكاء والفطنة وسائر الملكات العقلية إذا ما استخدمت في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ ومع الأشخاص الخطأ؟ أي قيمة للخبرة وسنوات العمر الطويلة إذا ترافقت مع الافتعال وانتفى منها الاحساس بالمسئولية مثلا؟ أو ان صاحبها يتميز بالابتذال؟ ها أنتم ترون ان الملكات العقلية لا تأتي وحدها والخصال البشرية ليست إيجابية على الدوام، أليس هذا المزيج من الجرأة والخوف، الحزم والتردد، العناد واللين، ضيق الصدر والمرونة، الحب والكراهية والقوة والضعف هو كل ما يميز الإنسان الطبيعي أيا كان مكانه أو نشاطه أو عمله؟ الذكاء يحتاج إلى الحسابات العقلية لا إلى التهور والطيش. والحسابات العقلية قد تحد من الذكاء في احيان أخرى إذا ما غلب عليها الحذر وكل خصلة فينا تدفع بنا إلى الامام ستقف أمامها خصلة أخرى قد لا تكون لنا يد فيها. لماذا لا يكون جميع الناس متهورين وطائشين؟ ربما نقول منظومة الاخلاق والتقاليد وها أنتم ترون أنكم قد حددتم الحسابات العقلية كعنصر أساسي يمنع الطيش والتهور ويلزم الناس بالرزانة. في نهاية المطاف سنجد أنفسنا نتحدث عن "التوازن". والإنسان الطبيعي هو دوما ذلك المزيج من كل هذه الخصال البشرية التي سنظل نأمل على الدوام ان تصيغ لنا إنسانا متوازنا. لا شجاعة بدون شيء من الخوف، لا جرأة بدون شيء من التردد. وإذا جاءت الشجاعة مطلقة لا يداخل صاحبها أي خوف من أي نوع فإننا حقا أمام إنسان غير طبيعي.
هل كان الرئيس العراقي السابق صدام حسين إنسانا متوازنا؟ إذا ما تذكرنا كلامه وخطاباته والقدر الهائل من مفردات التحدي الذي يتحدث به لن يخامر ايا منا الشك بأننا أمام رجل شجاع وشجاع للغاية. لقد ايده كثيرون بحجة انه الوحيد الذي كان يقف في وجه أميركا. وهم ان ابدوا شيئا من الصراحة في الاعتراف بسجله المخفق في الحكم وبطشه، لا يكترثون كثيرا بهذا بل تأسرهم الشجاعة اللفظية التي كان يمثلها صدام، لكن في الامتحان الحقيقي هل اثبت صدام شجاعة من أي نوع؟ لقد انتهت تلك الشجاعة اللفظية بهزيمة مذلة للجيش العراقي واستسلام مذل لصدام نفسه لم يكلف نفسه خلاله عناء اطلاق رصاصة واحدة. لن يبقى أمامنا الا استنتاج وحيد: صدام حسين ليس شخصا طبيعيا. على هذا النحو، تستوقفني كثيرا أصوات تتردد دوما في الصحف والمنتديات والجمعيات والمجالس، أصوات ظل الجميع يتعامل معها دوما على انها أصوات شجاعة وجريئة. وجدت نفسي أتساءل: ألا يشعر هؤلاء بشيء من الخوف او التردد مثل اي انسان طبيعي؟ حتى الزعماء والقادة الكبار يداخلهم التردد والخوف أحيانا لسبب بسيط هو أنهم بشر قبل كل شيء، لولا ذلك لما وجدت التسويات ولا وجدت الدبلوماسية ولا اللباقة ولا فن الخطابة ايضا. ما يدفع للسؤال هو النبرة التي لا تتغير والهجاء الذي لا يتوقف. والخلاصة النهائية لكل ما نسمع ونقرأ مع هذا الصنف واحدة لا تتغير: هجاء ولا شيء سوى الهجاء الذي سيصفق له الكثيرون للاسف باعتباره نقدا وتحليلا. ففي ثقافتنا العامة السائدة يختلط النقد بالهجاء طالما ان السياسة بقيت مرتبطة حتى اليوم بالفحولة أيضا لا بالذكاء العملي. والسؤال الذي ارتبط بصدام حسين هو نفسه الذي يلح مع كل امعان نلمسه في الجرأة وتلبس الشجاعة: هل يمكن ان يكون هذا الإنسان طبيعيا وهو يغدو الشجاع الوحيد والجريء الوحيد طيلة عقود من الزمن؟ منذ سنوات أمن الدولة وحتى سنوات الاصلاح؟ هل هو مركب من مزيج آخر غير المزيج الذي عجن الله به كل الناس؟
ثمة شجعان كثر لكن أحدا لا يذكرهم كثيرا لأن شجاعتهم من نوع آخر، بل لأنها شجاعة طبيعية تبرز في الوقت الذي يستدعي الشجاعة. شجاعة طبيعية غير مفتعلة يبدي صاحبها أيضا مرونة وصبرا وهدوءا في أحيان أخرى. لعل هذا السبب هو ان الناس تنسى شجاعة هؤلاء عندما يحتكمون في احيان أخرى للمرونة والتسامح، أي المقابل الذهني في ثقافتنا العامة الموروثة للجبن. هذه شجاعة إنسان طبيعي لا يفتعل الشجاعة بل تنبثق فيه، لا يسعى إليها بل يحكمها بعقله، لكن شجاعة أصحابنا الهجائين تثير الغبار من حولهم كثيرا لأن صوت الهجائين دوما عال جدا ومدو.
هكذا رحت أحاذر من بلاغة الشجاعة الفائقة دوما عن الحد الطبيعي ومن جرعة الهجاء الزائدة دوما عن الحد الطبيعي لأن العقل الذي منحني إياه الله يقودني لكي أرى في ذلك أمرا غير طبيعي
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 879 - الإثنين 31 يناير 2005م الموافق 20 ذي الحجة 1425هـ