بانتظار النتائج النهائية للنسب التي ستحصل عليها القوائم المتنافسة في الانتخابات العراقية لابد من الاقرار بان المشاركة كانت عالية إذا أخذت في الاعتبار الظروف الاستثنائية التي تمر بها بلاد الرافدين. فهناك أكثر من ثمانية ملايين عراقي توجهوا إلى صناديق الاقتراع واختاروا اللائحة "القائمة" التي يفضلونها على غيرها.
هذه المسألة يجب قراءة معانيها جيدا بغض النظر عن المواقف السياسية التي رافقت العملية برمتها. فالإقرار بالواقع فضيلة سياسية، يساعد على الابتعاد قدر الإمكان عن المكابرة. كذلك فإن تجاهل التحولات الجارية يعطل كثيرا رؤية تعقيدات الحياة العامة للناس، ويعقد من إمكانات التوصل إلى صيغة وطنية تنقذ البلاد من مشروعات التفكك والتقسيم.
أهم انتصار للشعب العراقي هو نجاحه في احتواء تداعيات الاحتلال ومنع واشنطن من استغلال التشنجات الأهلية وقطع الطريق على محاولة توظيفها في سياسات لا تصب في مصلحة العراق. والمحاولة الأخيرة كانت تلك التصريحات "الانتصارية" التي اطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش ونصيره البريطاني طوني بلير. فهذه التصريحات حاولت سرقة الأضواء عن الشعب العراقي ومصادرة فرحة العراقيين باستعجال إعلان "انتصارهما" في الانتخابات. هذا النوع من الكلام لا يخدم العملية السياسية المتوقع ان تولدها فترة ما بعد الانتهاء من الإجراءات الانتخابية. كذلك يصب هذا الكلام "الزيت" على نار الاختلافات. فالهدف منه زيادة تأجيج المشاعر وتأليب العواطف وزرع الشكوك بين المواطنين. فالكلام حاول تصنيف المقاطعين ووضعهم جميعا في خانة "الإرهابيين" وهذا يراد منه تزوير الانقسام الحقيقي في العراق وتحويله إلى معسكرات أهلية تتقاتل على غنيمة السلطة وتترك الاحتلال جانبا.
كلام الاحتلال الأميركي - البريطاني محاولة لضرب الوحدة الوطنية واستغلال تلك الانقسامات السياسية وتفرق الطوائف والمذاهب والمناطق و"الاقوام" والقبائل بين "مشارك" و"مقاطع" للدفع نحو تعميق الاختلافات ومنع الاتجاهات من الالتقاء في منتصف الطريق. فالمقاطع برأي بوش هو "إرهابي" أو على الأقل يدعم "الإرهاب" أو انه ضد "الديمقراطية" ويعارض "الحرية" وحق الإنسان من الاختيار... وهذه كذبة كبيرة تصادر النتائج السياسية للانتخابات من خلال تفخيخ جوهرها المشترك بالضرب على الانقسامات وقطع الطريق على احتمالات التوحد الوطني على برنامج يلبي رغبات وطموحات مختلف أطياف المجتمع.
كلام بوش - بلير هو سياسة تدخلية في شأن عراقي يراد منه تلميع صورة الاحتلال دوليا وأمام عدسات المصورين والايحاء للرأي العام الأميركي - البريطاني بأن مهمة القوات كانت ناجحة ومفيدة وهناك ما يبررها إنسانيا لتغطية الخسائر البشرية والكلفة المالية أمام دافع الضرائب. فالكلام يصادر حرية اختيارات الشعب العراقي ويعتبر ضربة استباقية للنتائج التي ستسفر عنها عملية فرز الأصوات. فالثنائي بوش - بلير أرسل إشارات سريعة إلى الرأي العام المحلي وإلى دول العالم وإلى الشعب العراقي وأخيرا إلى تلك القوائم المشاركة/ الفائزة بأنها يجب ألا تنسى فضل واشنطن - لندن عليها. وهذا تجاوز على كل عذابات وآلام وتضحيات الشعب العراقي وربما هي محاولة اختراق أو تفخيخ للسياسة التي يتوقع من القوائم الفائزة ان تتبعها في الاسابيع والشهور المقبلة.
الكلام الأميركي - البريطاني هو رسالة تستبق الأمور وتحذر المشاركين أو الفائزين في الانتخابات من عدم التمادي في اتباع سياسة وطنية عراقية. فالهدف من الكلام هو إرباك القوى الناجحة ومنعها من مد يد التعاون أو مصافحة المقاطعين بذريعة ان كل المقاطعين هم من "الإرهابيين" ودعاة "الاستبداد" واعداء الحرية.
الرسالة الأميركية - البريطانية واضحة وسريعة ووصلت إلى مختلف القوى المشاركة والمقاطعة. يبقى الجواب عند المشاركين والمقاطعين، إذ تتحمل القوى العراقية مجتمعة مسئولية الرد على التدخل في مسار العراق ومستقبله. فهناك الكثير من الخطوات المفترضة للرد على التحدي الأميركي - البريطاني منها تأكيد الوحدة الوطنية، الاتفاق على دستور مشترك، وضع جدول عملي لانسحاب قوات الاحتلال، منع الاحتلال من استغلال وجوده في العراق لزعزعة استقرار الدول المجاورة، وكذلك منع الاحتلال من استخدام أراضي العراق للاعتداء على دول الجوار.
هذه النقاط وغيرها كفيلة برد الكلام الأميركي - البريطاني على أعقابه واستعادة حرية الاختيار بعد محاولة الثنائي مصادرته وتطويقه وربما خنقه قبل إعلان النتائج النهائية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 879 - الإثنين 31 يناير 2005م الموافق 20 ذي الحجة 1425هـ