العدد 879 - الإثنين 31 يناير 2005م الموافق 20 ذي الحجة 1425هـ

الجميلة التي قتلها همنغواي

لم يكن للحياة أن تتجسد أكثر من تجسدها في هذا الرجل الأشيب ذي اللحية البيضاء والنظرة الثاقبة. انه همنغواي الرجل الذي استطاع أن يجمع بين معادلة الحياة وهو متزود بزاده لها ومقبل عليها لينهل منها ما استطاع وبين مغامرة الكتابة. لقد عاش الرجل وكأنه كان يقول للموت إما أن تأخذني أو أقبل أنا اليك، فلما أعيته الحيلة وأحس أنه لم يعد قادرا على ولادة شيء آخر صوب البندقية الى فمه وانتحر.

قصة همنغواي لم تخرج في اطارها عن قصص شخوصه؛ أولئك الذين عركتهم الحياة حتى جعلتهم في مواجهة دائمة مع الموت، أو أولئك الطيبين من الناس الذين يأنس اليهم ويجد الحفاوة عندهم فهم يحبونه ويعشقون قصصه التي تنسجها المغامرة. "كأس من البيرة وامرأة فرنسية مسنة وزوج مدمن على الكحول وعربة معطلة وليل وقطع من لحم الخنزير، وحديث مدهش عن مغامرات شتى وتواضع كبير والمرأة المسنة تعجب كيف أن هذا الأميركي يشعرها وكأنه جزء منها وأنها كل شيء". و "أربع فتيات ضخام الأجسام يلتقيهن في القطار، ليدير معهن حديثا عن متاعبهن؛ الأولى تشكو من حبيبها الذي تركها والثانية تحتفظ لنفسها بسر كبير وثالثة ورابعة في عراك، ودائما همنغواي هو الذي تشخص له العيون".

كان يعرف كيف يجعل من الناس حلقة تلتف حوله، ليس لأنه الأفضل وانما لأنه الأكثر تجسيدا لأحلامهم التي تداعبهم وتقض مضاجعهم، ففي كوبا يقابل ذلك الصياد الماهر ذو الألف حكاية وحكاية والتي لا تزال السمكة الكبيرة التي صارعها صراع الموت أو البقاء تجول في خلده فيخلده برائعته "الرجل العجوز والبحر". انه صراع الموت والحياة نفسه الذي ظل يفتنه طوال سنين عمره.

غير أنه لم يكن بريئا كل البراءة ذلك الذي تاه في ثلوج كليمانجارو مع تلك المرأة الحزينة، لم يكن بريئا وهو يكتب قصته تلك وينظر الى نمر مثلح والى أنثى تحاول ما أمكنها أن تسترد شيئا مع عذوبتها مع ذلك الرجل المؤذي. لم يكن بريئا مع الشقي ماكومبير وهو يحرضه على صيد الأسود والثيران ليموت فيخلو له وجه زوجته. لم يكن بريئا وهو يصوب المسدس الى رأس حبيبته الأولى وهي غارقة في أحلامها وأصابعها اللينة الصغيرة تلعب برفق على البيانو، تلك الحبيبة التي وجد فيها ضالته في احد مستشفيات اسبانيا يوم كان مصابا ويوم كانت ممرضة ترعاه وتحنو عليه "كان مساء جميلا وهمنغواي مقبل لزيارة الرجل الثري وفي نفسه شيء كثير من تلك الأيام والليالي الشاتية التي قضاها مع آجنس، كيف استطاعت أن تركن قلبها جانبا وترتبط بذلك الثري الاسباني؟! انها لا تزال جميلة كما رآها أول مرة. يجلس همنغواي معها لوحدهما وبعد قليل يسمع دوي طلق ناري يهز السكون يخرج همنغواي على اثره يجري في الردهة وهو يقول في ذهول "يا إلهي كيف فعلت ذلك". لقد قتل همنغواي حبيبته





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً