العدد 879 - الإثنين 31 يناير 2005م الموافق 20 ذي الحجة 1425هـ

شعبان: النجف ملتقى لصهر الثقافات

بمثابة سبيكة ذهبية لا يمكن تقطيعها

الجفير - محرر الشئون الثقافية 

تحديث: 12 مايو 2017

انه النجف الأشرف، تلك الأرض التي مدت ذراعها للسماء والتي ثبتت أركانها في الأرض. الرجل الصلب ذو الملامح الرجولية الذي يمتد امتدادا مع كبرياء وطنه، انه النجف بوابة الدخول الى العلوم والآداب والثقافة وكل ما يمت الى المعرفة الانسانية بصلة. انه النجف التاريخ الذي يمتد بعيدا بعيدا الى حياة الانسان الأولى يوم كان يصنع فجر الحرية والأفق المفتوح على كل جديد. النجف... المدينة التي كانت للعلم والثورة والتي منها انطلقت ثورة العشرين لتطرد المستعمر البريطاني.

هذه المقدمة أقل ما يقال عن هذه المدينة المقدسة ولكننا قلناها لابنها البار الذي زار البحرين مؤخرا، انه الباحث والأديب والحقوقي عبدالحسين شعبان في هذا اللقاء مع "الوسط" إذ الثقافة والحب يجتمعان في قلب لم تنطفئ يوما زهرة حبه لوطنه الذي يحمله بين جنبيه اينما ذهب وهو النجف. نفرد هنا اللقاء:

سأبدأ معك بسؤال تقليدي غير أنه مهم، ما هي أوجه ذلك الحب الذي يكنه العراقيون للنجف الأشرف، وما مدى ما تركه النجف في فكرك وشعورك؟

- أيسأل العاشق عن محبوبته؟! كل هذا الوجد والشوق والصبابة والعشق والحب كان في موطن الصبا الأول في النجف، النجف التي أحملها في قلبي مثل زمردة، كالأحجار الكريمة التي يحتفظ بها المرء لأيام سوداء. ان النجف بين ضلوعي وأشعر بتماه بيني وبينها. فالنجف كان لها التـأثير الكبير في تكويني الأول في روافدي الروحية ومنابعي الفكرية في تكوين شخصيتي. ان هناك عاملان رئيسيان أثرا في حياتي: القرآن والشعر. وشكلا مرتكزين متوازيين يسيران مع بعضهما طيلة هذه الأعوام. لقد كنت طوال هذه الأعوام أفتتح صباحي برؤية والدي وهو يقرأ القرآن. وأستمع الى ترتيلته الجميلة. وكنت عندما بدأت فك الحرف أو بعض رموز الكتابة أجد في مكتباتنا العائلية كتب وداوين الشعر لعل أبرزها كان للشاعر الكبير الجواهري التي كنا نحتفظ بها ونحافظ عليها كما نحافظ على حدقات عيوننا وخصوصا أنها كانت من الممنوعات آنذاك. هذه العلاقة تخصبت وتعانقت وتزاوجت مع شيء يجري في المدينة. فالنجف مدينة مفتوحة لكل الأمور ولكل القوميات وهي مأمومة بالوافدين الذين يردونها بثقافاتهم يدرسون فيها ويتعلمون وينصهرون في بوتقتها فكنت تجد فيها الأفغاني، الايراني، الهندي ومن كل دول الخليج، من البحرين والاحساء والقطيف الى سورية الى لبنان الى جبل عامل، من تركيا ومن تركمانستان ومن آسيا الوسطى. ان النجف مختبر لصهر الثقافات المقبلة وتلقيحها مع الثقافات العربية الاسلامية ومع هذا فان النجف مدينة لم تعرف الطائفية يوما.

مدينة النور والظل، العلم والفنون، الثقافة والتاريخ المجيد، المدينة التي أنجبت على امتداد التاريخ أسماء لامعة في شتى الميادين، ما الصفة الأكثر بروزا فيها؟

- ان النجف تشبه السبيكة الذهبية، التي لا يمكن اقتطاع جزء منها لحساب جزء آخر فهي تحمل كل ذلك، هي مرفأ لكل المسلمين في العالم وهي مدينة الجواهري ومحمد سعيد الحبوبي والشبيبيون، أما اذا أردت التحدث عن السياسة وعن الدين وعن الاجتماع وعن تلاقح الحضارات أو عن استقبال الثقافات أو التعاطي مع الأجنبي أو التسامح فالحديث يطول. وهي مدينة لاتزال على ذلك على رغم كل ما حل بها حتى الوقت الحاضر فالبذرة الموجودة هي بذرة صالحة، ربما تصدعت وتأثرت لكن ظلت أساساتها متينة فقد جرت المحافظة على الحوزة وعلى بقايا الجامعة النجفية التي مضى على وجودها ألف عام. وبالمناسبة هي أقدم جامعة في العالم وهي أقدم من جامعة بولونيا بحوالي مئة عام وأقدم من جامعة الأزهر بحوالي مئة عام، فبهذا المعنى هي صلح حضاري. لقد شربنا الوطنية من النجف كما شربنا حليب أمهاتنا. ففي العام 1956 ثارت النجف بوجه العدوان الثلاثي على مصر وجرى احتلال المدينة وقتل ثلاثة مواطنين وجرح عشرات وكان للنجف دور كبير في تغيير مسارات الكثير من الحكومات اذ كان لاحتجاجات النجف دور كبير، فحتى المناسبات الدينية كانت تستثمر لأغراض سياسية وطنية وليست سياسية ضيقة فهي أغراض سياسية عامة.

ماذا عن الشخصية النجفية والعراقية عموما، هل تؤيد ما ذهب اليه بعض الكتاب من أن العراقيين اكتسبوا الطبع الجميل الهادئ من جمال وهدوء طقسها؟

- يقول المتنبي العظيم: "كل تداوينا فلم يشف ما بنا... على أن قرب الدار خير من البعد/ على أن قرب الدار ليس بنافع... اذا كان من تهواه ليس بذي ود". ان الشخصية العراقية مزيج من ثلاثة عناصر: التناقض وهو قلق انساني وعنصر التفجر الابداعي في الشخصية العراقية. ففيها الحب الكبير والكره الشديد، فيها الود المنقطع النظير، وفيها التحدي إذ إن الشخصية العراقية تتحدى وأحيانا تبالغ وتغالي في تحدياتها دون أن تدرس الواقع ولكنها تستجيب للتحدي ففيها عنفوان وثقة كبيرة بالنفس وبها اقتحامية تستجيب للتحدي وقد تدفع أثمانا باهظة بسبب هذا التحدي ولكن هذا جزء من الشخصية العراقية. خذ مثلا الجواهري الكبير انه رمز التناقض والتحدي عندما يقول: " وأركب الهول في ريعان مأمنة... حب الحياة بحب الموت يغريني" فكيف جمع بين الحياة والموت، أو عندما يقول في التحدي "كم هز دوحك من قزم يطاوله... فلم ينله ولم تقصر ولم يطل/ وكم سعت امعات أن يكون لها... ما ثار حولك من لغو ومن جدل/ ثبت جنانك للبلوى فقد نصبت... لك الكمائن من لؤم ومن ختل" أو حتى عندما يقول في التناقض "عجيب أمرك الرجراج... لا جنفا ولا صددا/ تضيق بعيشة رغد... وتهوى العيشة الرغدا/وتخشى الزهد تعبده... وتعشق كل من زهدا/ ولا تقوى مصامدة... وتعبد كل من صمدا" فهي شخصية عراقية بها الكثير من التناقض والتحدي.

يقول الجواهري "أنا العراق لساني قلبه ودمي... فراته وكياني منه أشطار" فلماذا أوليت محمد مهدي الجواهري كل هذا الاهتمام فقمت بكتابة كتاب عنه ألأنه العراق؟

- لقد كتبت عن الجواهري "الجواهري جدل الشعر والحياة" وسبقه كتاب قبل عشرين عاما وهو "الجواهري في العيون من أشعاره". ولقد عاش الجواهري معنا، فعندما اعتقل عمي شوقي شعبان بعد حوادث السويس والعدوان الثلاثي كبس الأمن بيتنا فاكتشفنا ونحن نبحث في بعض الملفات ان هناك قصيدة للجواهري اسمها القصيدة الحمراء وقصتها طريفة، فحاولنا أن نخبئ القصيدة الحمراء قدر الامكان وأخذها والدي الى محله التجاري ووضعها بين الأقمشة. وقد رافق القصيدة الحمراء غترة بيضاء وكان المتظاهرون وقتها يلبسون الغترة لاخفاء معالمهم وصاحبها نظارة سوداء فأصبحت القصيدة الحمراء والغترة البيضاء والنظارة السوداء فأصبح ذلك هاجسا لوالدي، اذ كيف يخفي كل هذه الأمور عن أعين رجال الأمن الذين جاءوا لكبس البيت. ثم توطدت علاقتي مع الجواهري فالتقيته لأول مرة في العام 1959 وعندما كنت في براغ عشت معه لستة أعوام ثم التقيته في أماكن مختلفة وعدت وعشت معه لبضعة أعوام أخرى في دمشق والتقيته في لندن وفي براغ مرات ولقاءات ولقاءات فهذه الصحبة التي أصبح طولها نحوا من ثلاثين عاما كانت عنصرا مؤثرا في خياراتي





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً