التاريخ يعيد نفسه. المراقبون للنزاع الدائر بين الولايات المتحدة وإيران يستعيدون ذكريات بداية نشوء أزمة العراق. الولايات المتحدة و"إسرائيل" تشيران من دون انقطاع إلى مسعى الجمهورية الإسلامية لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. ويبدو أن واشنطن وتل أبيب تتقاسمان الأدوار. إذ تهدد إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بنقل الخلاف بشأن البرنامج النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي. في الوقت نفسه بدأت "إسرائيل" تصيح علنا أن إيران بؤرة الإرهاب على حد تعبير شمعون بيريز مطلع الأسبوع الجاري. انه السيناريو الذي تم استخدامه حين بدأ العمل في التشهير بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين على رغم أن أجهزة الاستخبارات الغربية كانت على بينة أن العراق الذي أرهقته حرب الأعوام الثمانية ضد إيران ثم حرب الخليج العام 1991 والحظر الاقتصادي الذي دام أكثر من عشرة أعوام، لم يعد يشكل أي تهديد لجيرانه.
المستشار الألماني غيرهارد شرودر الذي سيزور عددا من البلدان الخليجية في شهر مارس/ آذار المقبل حدد موقفه بشأن احتمال قيام الولايات المتحدة وحليفتها "إسرائيل" بتوجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية في إيران. وقال شرودر مساء الاثنين الماضي على هامش حفل استقبال بمناسبة حلول العام الجديد أقامته المجموعة البرلمانية الاشتراكية في البرلمان الاتحادي: لا أحد في منطقة الخليج يحتاج إلى نزاع مسلح جديد. ونعتقد أنه بالوسع التوصل إلى حل للنزاع مع إيران عن طريق المفاوضات. أضاف شرودر قائلا: برأينا هناك مشكلة ينبغي حلها لأنها ضمن الأولويات، وهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. برأينا فإنه إذا توفرات الرغبة والإرادة لدى الإدارة الأميركية فإنه بالإمكان حل هذا النزاع.
يذكر أن تصريح المستشار الألماني الأخير لا يختلف بالنص والمضمون عن تصريح مماثل صدر عنه عند نشوب أزمة العراق وصدور أول تهديد من واشنطن بشن حملة عسكرية ضد نظام الرئيس العراقي السابق. وأدى رفض ألمانيا السير في ركب الولايات المتحدة ورفضها المشاركة في العمليات العسكرية في العراق إلى قطيعة بين برلين وواشنطن استمرت بعض الوقت كما أدت إلى تصلب العلاقة الشخصية بين الرئيس الأميركي بوش والمستشار شرودر. وتؤكد مصادر حكومية ألمانية أن المستشار الألماني سيحاول إقناع الرئيس الأميركي بعدم جدوى القيام بمغامرة عسكرية جديدة في منطقة الخليج حين يعرج بوش على ألمانيا في 23 فبراير/ شباط المقبل في إطار جولة أوروبية هي الأولى بعد إعادة تنصيبه في منصبه لولاية ثانية. ويخالج مجموعة من السياسيين والخبراء الاستراتيجيين الألمان شعور مقيت باحتمال قيام "إسرائيل" بإشعال فتيل حرب جديدة. فبعد أن كشفت وسائل الإعلام الألمانية في نهاية العام الماضي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون كلف جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "موساد" بوضع خطة للقيام بضربة تصفها "إسرائيل" بأنها وقائية لمنشآت نووية إيرانية، أصبح الاحتمال أكبر من السابق وخصوصا أن "إسرائيل" أعلنت أكثر من مرة أنها لن تقبل السكوت إذا شعرت أن إيران باتت على وشك امتلاك أسلحة نووية. ويذكر أن "إسرائيل" قامت بتأييد من دول غربية بنسف مفاعل عسيراك الذري في العراق في مطلع الثمانينات بعد أن ساهمت فرنسا في بنائه.
وقال وزير الدفاع الألماني السابق الذي ينتمي إلى الاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض فولكر روهي إنه إذا قامت "إسرائيل" بعملية عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية فإنها تكون نسقت مع واشنطن. يذكر أن شركة سيمنز الألمانية حصلت في عهد الشاه رضا بهلوي على عقد بناء مفاعل بوشهر الذري لكنها اضطرت تحت ضغط سياسي لوقف العمل بالمشروع. وعقب مفاوضات مضنية قررت روسيا مواصلة عملية البناء لكن التقارب الحاصل بين واشنطن وموسكو دفع مرة أخرى إلى وقف العمل بهذا المشروع. وتعتقد أجهزة استخبارات غربية أن إيران تتعاون مع الصين لمواصلة مشروع بوشهر.
وعلى رغم التشابه بين النزاع مع إيران والنزاع مع العراق فإن ما يميز الأول عن الثاني هو مسعى الثلاثي الأوروبي "بريطانيا، فرنسا وألمانيا" الدول التي تتفاوض نيابة عن الاتحاد الأوروبي مع طهران لهدف إقناعها بالتخلي عن امتلاك أسلحة الدمار الشامل، كما هناك عنصر مهم وهو أن رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير الذي كان أشد المتحمسين لحرب العراق، يعارض حملة عسكرية ضد إيران. ويشير المراقبون إلى الجهود الدبلوماسية المكثفة التي يقوم بها بصورة خاصة وزير الخارجية البريطاني جاك سترو للتوصل إلى حل سلمي للنزاع. غير أن سبب موقف بلير مرجعه الانتخابات العامة في بريطانيا التي يستعد حزبه إليها بعد أقل من مئة يوم. وكان بلير انضم إلى حرب العراق على رغم المعارضة الشعبية الواسعة في بريطانيا. ويرى أعضاء في حزب العمال الحاكم في بريطانيا أن موافقة بلير على حملة عسكرية ضد إيران ستكتب النهاية لعهد حزب العمال في السلطة.
وكتب معلق شئون السياسة الخارجية في صحيفة "فرانكفورتر ألجماينه" المحافظة والمتعاطفة مع الولايات المتحدة كلاوس ديتر فرانكنبيرغر أنه ينبغي على الأوروبيين وضع خطة ب لاحتواء النزاع مع إيران تقوم على الحوار والتهديد بفرض عقوبات اقتصادية وذلك بعد أن وضعت الولايات المتحدة و"إسرائيل" الخطة التي تدعو على الأرجح إلى استخدام القوة العسكرية ضد الجمهورية الإسلامية.
غير أن وزير الدفاع الألماني السابق فولكر روهي يقول: "إن إيران ليست العراق وفي حال تعرض إيران لاعتداء عسكري ستكون له عواقب وخيمة وخصوصا على الجنود الأميركيين المتمركزين في العراق. وسيعتبر شيعة العراق الاعتداء بمثابة اعتداء عليهم وستعم المنطقة فوضى لا أحد يتنبأ بنتائجها".
وحاول وزير الخارجية الألماني الذي ينتمي إلى حزب الخضر يوشكا فيشر أن يقنع وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة كونداليزا رايس بأهمية مواصلة استخدام الحوار السياسي مع إيران وأن تنضم واشنطن إلى المفاوضات الدائرة بين الترويكا الأوروبية وطهران. ويرى المراقبون أن مثل هذا التطور الدبلوماسي لو تم فعلا فإنه يكسب الترويكا الأوروبية وزنا كبيرا ويسهم في خفض التوتر.
المؤكد أن الشركات الألمانية العاملة في إيران أعلنت مناهضتها لطلب واشنطن أن تجمد الشركات الأجنبية كافة نشاطاتها في إيران. وصرح متحدث باسم شركة مان/فيروشتال التي تقوم ببناء أكبر معامل صقل المعادن في مدينة بندر عباس الساحلية بأن الشركة ستستمر في التعاون والتبادل التجاري مع الجانب الإيراني. وصدرت تصريحات مماثلة من شركة سيمنز ومن مؤسسة البريد الألماني "بوندس بوست". كما أعلنت شركات نفط أوروبية رفضها الانصياع للمطالب الأميركية وأكدت شركة دويتش شل الألمانية وتوتال الفرنسية استمرار نشاطاتهما في إيران على رغم احتدام حدة التهديدات الأميركية ضد إيران. لكن مدير شركة بريتيش بتروليوم البريطانية قرر وقف استثمارات الشركة في قطاع النفط الإيراني إلى أجل غير محدد. وعزا قراره لعدم رغبة الشركة باستفزاز الولايات المتحدة.
وكانت ألمانيا على الدوام نافذة إيران المطلة على الغرب، ويرتبط البلدان بعلاقات اقتصادية عريقة وخصوصا أن إيران أحد أهم شركاء ألمانيا التجاريين في الشرق الأوسط. ووفقا لبيانات اتحاد غرف التجارة والصناعة الألمانية ارتفع عائد الصادرات الألمانية إلى إيران خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي بنسبة 30 في المئة أي ما يعادل 3 مليارات يورو. وتشير مصادر اقتصادية ودبلوماسية في برلين إلى أن انسحاب الشركات الألمانية من السوق الإيرانية سيكون ضربة للاقتصاد الألماني الذي يحاول استعادة دوره التنافسي العالمي مع الولايات المتحدة واليابان، غير أن مثل هذا الانسحاب لا يتم إلا في حال فرض عقوبات اقتصادية تلزم الحكومة الألمانية على مضض التقيد بها مثلما حصل حينما فرض حظر اقتصادي ضد ليبيا والعراق
العدد 878 - الأحد 30 يناير 2005م الموافق 19 ذي الحجة 1425هـ