يعود تنظيم ملفات العمل الوقفي الجعفري في مملكة البحرين إلى أيام السيدعدنان الموسوي رحمه الله وطيب ثراه، فلقد ألهمه الباري عز وجل أن يوثق هذه الأوقاف ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى باتت الدفاتر والمخطوطات التي خطتها ودونتها يداه الكريمتان هي المرجع الوحيد والصوت الأكيد المدافع عن الأوقاف الجعفرية.
لقد كانت نظريات الوقف في تلك الأيام شائعة ومتداولة لأسباب كثيرة، ليس هنا المجال لاستعراضها أو الخوض في تفاصيلها، على رغم أن ذلك قد يكون مفيدا ودافعا لأصحاب العقارات والأملاك الكبيرة والفائضة عن الحاجة للتفكير في وقف بعض من هذه الأملاك لصالح المؤسسات الدينية والاجتماعية، وحتى لصالح بعض المشروعات التنموية والثقافية والشرائح المجتمعية المطحونة في هذا البلد الذي يشهد تراجعا ملحوظا في مستوى الحياة المعيشية، وتناميا ملحوظا في مستويات الفقر والبطالة والعوز.
لقد آمن أولئك الذين أوقفوا هذه الأوقاف التي وصلت لنا "ذلك أن هناك الكثير من الأوقاف التي ضاعت أو نهبت أو تعرضت للضم والقضم ووضع اليد" آمنوا بالأعمال الخيرية لوجه الله تعالى، لكن آخرين ممن يدعون الإيمان أيضا قد اعتاشوا سنين طويلة على هذه الأوقاف، استثمروها لصالحهم وسكنوا فيها، من دون أن يرجف لهم بدن أو تطرف لهم عين من خشية الله، حتى يخيل لنا بأن من أوقف هذه الأراضي قد كتب في دفاترها بأنها موقوفة لصالح هؤلاء بعينهم دون سواهم من البشر.
لكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، فلقد تركهم مدة طويلة لكي يثوبوا إلى رشدهم، ويعيدون ما لديهم من أوقاف وحقوق لتصرف في أماكنها الشرعية الحقة، إلا أنهم أبوا واستكبروا استكبارا شديدا، حتى انبرى لهم السيدضياء الموسوي، رجلا لا تأخذه في الحق لومة لائم، معتمرا عمامة جده رسول الله، متشحا بعباءة العلم والمعرفة، متسلحا بحرية البحث والتقصي وتقليب الدفاتر القديمة وتتبع ملفات الأوقاف الجعفرية واحدا إثر آخر، حتى أزال عنها الغبار، ورفع ما بيننا وبينها من أستار، فبانت الحقائق بشكل أفزع الصامت والناطق.
وإذا كان مجلس إدارة الأوقاف الجعفرية والإدارة الحالية امتلكا من الجرأة ما يكفي لفتح الملفات أمام السيد الموسوي الثاني، فإن ذلك قد يوحي بحجم التركة الثقيلة التي بين أياديهم، والتي هي بحاجة فعلية لمن يوليها العناية اللازمة والاهتمام المناسب، وسواء أفصح أصحاب النوايا الطيبة من الإخوة أعضاء المجلس والإدارة الحالية عن هذه الحاجة أم كتموها، فإن الرسالة التي يجب أن تصلنا مفادها أن مسئولية حماية الوقف وتنميته لا تقع على عاتق هؤلاء دون سواهم، فهناك العلماء الأفاضل، وهناك أصحاب المآتم والمؤسسات الحسينية والدينية صاحبة الوقف، وهناك المثقفون ورجال الأعمال وأصحاب الخبرة والرأي والمشورة، كلهم مسئولون ومطالبون بتحمل مسئولياتهم، وعدم الابتعاد وتوجيه سهام التجريح والانتقاد، من دون فعل وتأثير ومشاركة في حماية وتنمية هذا الوقف.
إنها أمانة ثقيلة لن تستطيع جهة واحدة تحملها، لذلك فإن الجميع مطالب بالعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. فالمال الوقفي يتعرض للسرقة والسطو المباشر وغير المباشر، وغالبية أولي الأمر بالأمر عارفون صامتون لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، وكأن ما يجري بحق الأوقاف شأن ليس من شأنهم، وفعل يتم بعيدا عن اختصاصهم، على رغم أنهم يتباكون في أكثر من مكان، ويشتكون الذل والهوان وسطوة السلطان، لكن صوتهم لا يبرح المكان، وردة فعلهم ليس لها لسان، فلا هم أعلنوا امتعاضهم، ولا هم سربوا احتجاجهم، بل إن بعضهم مستعد لمصافحة الشيطان، فقط من أجل أن يضمن مصلحة خاصة أو رضا وطيب خاطر وجاها عند هذا المسئول أو ذاك، فلقد كانت كثير من الأوقاف معقودة لصالح كبار المسئولين والنافذين في مختلف المواقع.
ولنا أن نتصور كيف أن سيدا واحدا ووحيدا، لكنه جسور لم ترضه الأمور، فأفرد الساعات والأيام والشهور للبحث في أروقة الأوقاف، ولم يكن يخاف، فقد حباه ربه الكريم بالصبر والأناة، وقدرة ملهمة ليكشف المستور، فبان ما تحت السرائر، وخرج ما كان مختبئا في الأوراق والدفاتر، وهكذا بانت بعض طرق سرقة المال العام الحرام، فلم يعد أمامنا أن ندعي بأننا نيام، وأن ما نقرأه بحاجة إلى الدليل والسلام، لأن صاحب العباءة السوداء يصيح في الصباح والمساء، تحركوا يا من تدعون إلى الشفافية، وتطالبون بمحاسبة الجاني والجانية، وتنادون بدولة القانون، وتقولون إن البشر متساوون، وأن حقهم وإرثهم وتاريخهم وتراثهم مصون، لأنها لحظة الحقيقة وكل إنسان مطالب بالعمل وفق ما يستطيعه ويطيقه.
إنني أعلن تضامني الشديد من الوريد إلى الوريد، مع كل ما جاء على لسان السيد الرشيد، السيدضياء الموسوي، في هذا الأمر بالتحديد، وأشاركه الرأي بأن المطلوب أن تتحول الأوقاف إلى مؤسسة أهلية ذات مواصفات علمية مبنية على فتاوى شرعية تراعي الحق وتنمي الوقف وتوظفه في الصالح العام. كما أقترح أن تتم دعوة ممثلين عن الجهات الموقوف لها، من مآتم ومساجد ومقابر وأعمال خير وبر، إلى لقاء عاجل لتدارس أوضاع الأوقاف، على أن يعرض أمام المدعوين تقريرا مفصلا عن خطط إدارة الأوقاف الجعفرية في السنوات المقبلة، كما يعرض أمامهم التقارير التي أعدها والحقائق التي جمعها السيدضياء الموسوي بهذا الشأن.
من جهة أخرى فإنني أدعو لاعتبار هذا اللقاء بمثابة مؤتمر تحضيري لتحويل الأوقاف الجعفرية إلى مؤسسة أهلية، بحيث يختار المجتمعون من بينهم لجنة تحضيرية تقوم بوضع الأسس والضوابط المناسبة للدعوة إلى المؤتمر التأسيسي لمؤسسة الأوقاف الجعفرية الأهلية، بما في ذلك تحديد طريقة اختيار مندوبي المؤسسات الموقوف لها وعدد ممثلي كل مؤسسة في المؤتمر التأسيسي، كما يكون من اختصاص اللجنة التحضيرية تقديم المقترحات بشأن إدارة المؤسسة الجديدة، بالإضافة إلى تقديم البرامج والمشروعات المقترح أن تتبناها هذه المؤسسة وطريقة الرقابة عليها، وآلية عمل أجهزتها، وطريقة محاسبتها واجتماعات الهيئات المكونة لها والعلاقة فيما بينها، وكيفية تنظيم العلاقة مع السلطات الرسمية في البلاد.
على أن يقوم المؤتمر التأسيسي بانتخاب مجلس إدارة جديد للأوقاف يدير هذه المؤسسة لمدة عامين، شريطة أن يقدم تقريرا ماليا وآخر إداريا للجمعية العمومية التي عليها أن تجتمع سنويا لمناقشة أعمال مجلس الإدارة ومحاسبته، فإذا تعذر على المؤتمر التأسيسي المباشرة في انتخاب مجلس إدارة للأوقاف، بسبب الجوانب القانونية والإدارية، قامت الجمعية العمومية باختيار مجلس استشاري، يراقب مجلس الإدارة المعين من قبل الدولة ريثما يتم تعديل القوانين التي تنظم عمل الأوقاف، على أن يتسلم المجلس الاستشاري الصلاحيات كافة من مجلس الإدارة فور تعديل القانون، بما يساعد على تحويل الأوقاف إلى مؤسسة أهلية مستقلة، بحيث يقوم المجلس الاستشاري باتخاذ الترتيبات اللازمة للدعوة إلى انعقاد المؤتمر الأول للجمعية العمومية لمؤسسة الأوقاف الجعفرية، ومن ثم تعقد هذه الجمعية اجتماعاتها بصورة دورية حسبما يحدده النظام الأساسي الذي على المؤتمر التأسيسي أن يعتمده ويجيزه.
وكاقتراح عملي للمباشرة في هذا المشروع، فإن بإمكان مجلس إدارة الأوقاف الحالي أن يدعو ممثلي الجهات صاحبة الأوقاف المسجلة لديه للتشاور، بحيث تنتدب كل جهة اثنين أو أكثر من ممثليها لهذا اللقاء التشاوري، وحبذا لو دعي إلى حضور هذا اللقاء بصفة مراقب بعض رجال الدين، وبعض رجال الأعمال والمثقفين المهتمين بالوقف وتنظيمه وتنمية مصادره، للاستئناس بآرائهم وأفكارهم، ولوضعهم في صورة ما يجري عن قرب.
رحم الله الموسوي الأول السيدعدنان الموسوي وجزاه ألف خير، وأطال في عمر الموسوي الثاني السيدضياء الموسوي، وأعطاه من القوة والجلد ما يستعين به على متابعة هذا الطريق الشائك، والله المستعان
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 878 - الأحد 30 يناير 2005م الموافق 19 ذي الحجة 1425هـ