الاكتئاب واحد من أهم الأمراض النفسية وأكثرها انتشارا، وخصوصا بين البالغين، وأظهرت الدراسات أن نحو ستة في المئة من الناس عموما يعانون من الاكتئاب، وأن 15 في المئة من هؤلاء المصابين ينتحرون، وأن نحو 70 في المئة يصابون قبل الانتحار بالاكتئاب، هذا ما يؤكده استشاري الأمراض النفسية في مستشفى الطب النفسي فاضل النشيط.
وتقول دراسات أخرى: "قديما كان ظهور المرض عادة في سن الأربعين إلا أنه في العصر الحديث بدأ يظهر مبكرا" "ربما في الثلاثينات أو حتى في العشرينات من العمر" ولعل ذلك يرجع لتعقيدات الحياة الحديثة، كما تشير إلى أن النساء أكثر إصابة بالاكتئاب من الرجال بمقدار الضعف، ويكثر بين الأرامل وفي حالات الطلاق ويقل بين المتزوجين.
الدراسات تؤكد ان النساء هن الأكثر إصابة بالاكتئاب، ويظهر لدى بعضهن الاكتئاب في صورة أعراض عضوية.
نساء مكتئبات يروين قصصهن مع هذا المرض الذي ينهش في النفس قبل الجسد.
نساء مكتئبات
" ل.ح"- 40 عاما - تقول: "نعم أصبت بالاكتئاب سنوات طويلة ولم أشف منه حتى تم طلاقي، فأنا من أسرة محافظة تعليمي متوسط، تزوجت من ابن عمي، لم أكن أعرفه، ولكني لم استطع الرفض فهذه هي تقاليد عائلتنا، وتمنيت أن أسعد في زواجي هذا، ولكني منذ اليوم الأول وأنا أشعر بهوة كبيرة بيننا، حاولت التقرب إليه، كان دائما ينهرني حتى لم أعد أرغب فيه، أطفالي الثلاثة وتعليمي المتوسط - على رغم انني أعمل - كانت عقبات تقف أمام تفكيري في الطلاق، وبدأ المرض يهاجمني، لم أعد أقوى حتى على الذهاب إلى العمل، أصبحت طريحة الفراش، احتار الأطباء في حالتي، وأصبحت من نزلاء مستشفى الطب النفسي، وعندما علم والدي من الأطباء إن زوجي سبب مرضي، أصر على تطليقي منه، وحمدت الله ان والدي أنقذني مما أنا فيه قبل أن تهون علي حياتي".
" س.م" - 29 عاما - تقول: "حاولت الانتحار أكثر من مرة بعد أن فشلت دراسيا، ولدت في إحدى الأسر المفككة، لم يهتم والدي يوما بي، وكانت والدتي تسقط علي فشلها في زواجها، كانت تحملني هذا الفشل وشعورها بالتعاسة لأنها تحتمل هذه الحياة من أجلي كما كانت تردد دائما، وكنت أشعر ان الخلاص من حياتي هذه هو نجاحي في الدراسة، وكنت متفوقة حتى تزوج والدي وزادت تعاسة أمي، وفشلت في امتحان الثانوية العامة 3 سنوات متتالية، وشعرت بيأس من الحياة، وأقدمت على الانتحار، ولكن تم إنقاذي في المرتين، أشعر كما لو كنت اسيرة هذه التعاسة حتى يأتني الخلاص".
"ب. ح" 46 عاما - مطلقة منذ 4 سنوات، تقول: "عشت مع زوج كان حلم حياتي، أحببته من أعماقي وضحيت حتى بالأمومة من أجله، ولكنه لم يقدر أي شيء، ولم يحاول الحفاظ علي، وضاعت حياتي بعد 15 عاما من الزواج، لم يعد لي شيء، لا بيت ولا زوج ولا أولاد، وحاولت أن أتعايش مع حياتي بلا جدوى، ولم يعد لي إحساس بهذه الحياة، أتعالج نفسيا منذ سنوات طويلة، وكثيرا ما أشعر بالانهيار".
لا نملك توثيقا
لماذا ينتشر الاكتئاب بين الشباب؟
يقول النشيط: "نعاني في البحرين من عدم توافر دراسات نستطيع أن نستدل من خلالها على حجم المشكلة وأسبابها الحقيقية بالأرقام، فنحن لا نملك دراسات موثقة نعتمد عليها".
من الملاحظ ازدياد حالات الاكتئاب بين الشباب؟
- هذا واقع ولكن ربما يكمن السبب في أن الأجيال السابقة لم تكن تعرف مرض الاكتئاب، ولكن هذا لا يعني أنها لم تكن تكتئب؟ إذا فالقضية ربما هي قضية وعي في الأساس، هذا بالإضافة إلى انتشار المخدرات بين فئة الشباب غالبا يرتبط بمشكلات نفسية، ويكون التعاطي هو نوع من رفض الشاب لواقعه، ولكن ليس كل مدمن مصاب بالاكتئاب، وليس كل من يكتئب يدمن.
بعض الدراسات تؤكد انه على رغم أهمية العامل الوراثي في ظهور الاكتئاب، فإن الظروف البيئية بالإضافة إلى الضغوط الحياتية تؤدي دورا مهما في حدوث الاكتئاب؟
- من المعروف ان أكثر الأسباب التي تتسبب في إصابة الشباب بالاكتئاب هي البطالة والمشكلات الاجتماعية، والسبب يرجع إلى ان الشاب في هذه المرحلة يكون شعلة من النشاط، وفي داخله حماس للعطاء وشعوره بأنه عاطل وبلا عمل لا يمنحه الفرصة لبث هذا العطاء، وأدت البطالة في بعض حالات الاكتئاب إلى الانتحار، فقد أثبتت الدراسات ان 15 في المئة ممن يصابون بالاكتئاب ينتحرون، وهذه تعد نسبة عالية.
ابتسامة مكتئبة
ومتى يصل المرء إلى لحظة الانتحار؟
- لحظة الانتحار تأتي نتيجة لتراكمات نفسية، والوصول إليها قد يختلف من شخص لآخر، فليس كل مكتئب يقبل على الانتحار، ولكن في الوقت نفسه نستطيع القول إن كل مكتئب معرض للإقدام، قد يخفف العامل الديني والإيمان القوي من اللجوء إلى الانتحار، ولكنه لا يمنعه في كل الحالات، فهذا يتوقف على نوع الاكتئاب وحجم الشخصية المكتئبة، وأسباب الاكتئاب.
هل أعراض الاكتئاب دائما التعاسة والحزن والعزلة؟
- لا بل هناك الابتسامات الاكتئابية، وهو الاكتئاب غير التقليدي، ويكون فيه الإنسان مكتئبا ولكن لا يظهر اكتئابه، بل يحاول الابتسام والضحك، على رغم شعوره بالتعاسة الداخلية، ويظهر الاكتئاب في صورة أعراض جسمانية، وخصوصا الصداع، وكثير من الناس تتكرر لديهم حالات صداع شديدة، ولا يجد الأطباء أسبابا عضوية تفسر هذا الصداع.
ومتى يأتي الاكتئاب في صورة آلام عضوية؟
- يحدث ذلك في أكثر الأحيان لدى النساء، وعندما لا تتمتع المرأة بالوعي الكافي الذي يجعلها تبوح بمشاعرها، فبعض النساء يخجلن من التحدث عن شعورهن بالاكتئاب، ولذلك تصبح الشكوى عضوية.
حتى الطبيب النفسي
وأي الشخصيات التي تحتاج إلى الاستشارات النفسية؟
- في رأيي ان كل إنسان بحاجة إلى استشارة نفسية حتى الطبيب النفسي أيضا، ولكن مجتمعاتنا لاتزال تنظر إلى العلاج النفسي نظرة خجل وتردد وهذا ما يجعل الكثير يترددون في طرق العيادات النفسية، على رغم كونهم يعانون من مشكلات ويمكن أن يساعدهم الطبيب النفسي في حلها.
ومن جهة أخرى ذكرت جمعية محاربة الاكتئاب والقلق في جنوب إفريقيا ان أكثر من 5 آلاف من مواطني جنوب إفريقيا سينتحرون قبل نهاية هذا العام إذا ما استمر الاتجاه الحالي.
وذكرت الجمعية ذلك قبل عقد اجتماعها السنوي الثاني لمنع انتحار الشباب، مشيرة إلى ان الاحصاءات تضم صبية في العاشرة، ويشمل عرضا لكيفية منع الانتحار. وكيف يمكن للأصدقاء والآباء والمدرسين التعرف على أعراض الاكتئاب الحاد.
وذكرت مدير عام الجمعية جوليا زكاريس: "ان البرنامج يهدف إلى تمكين المدرسين والطلبة والآباء من تعزيز تنبههم إلى أعراض الاكتئاب والانتحار. وقالت: "إن خبراء مدربين سيقومون بزيارة المدارس حيث يجرون ورش تفاعلات مع الطلبة، ويتحدثون معهم عن الاكتئاب، وضرورة إلا يبقى سرا إذا بدت على صديق أو حبيبة علامات ميول انتحارية".
وأضافت: "أن الأطفال ينتحرون لأسباب كثيرة، من بينها الفقر المدقع، والتفكك الأسرى نتيجة إساءة المعاملة أو الطلاق، وضغط الرفاق، والفشل في الدراسة، بل حتى المرض الخطير".
فسيولوجية واجتماعية
وأثبتت الدراسات النفسية أن النساء أكثر عرضة للاكتئاب من الرجال بنسبة 2 إلى .1 وذلك لعوامل فسيولوجية واجتماعية، ووراثية، وطبية تجعلها أسيرة للأحزان والهموم التي تدفع بها إلى دائرة الاكتئاب السوداء!
ومن منطلق احصاءات علمية نفسية أوضحت أن نسبة النساء تفوق نسبة الرجال، وذلك لأسباب كثيرة منها ان بعض النساء اللاتي لديهن استعداد للمرض بسيطات وطيبات، واهتماماتهن روتينية وضيقة، ما يجعلهن ذوات نفسيات هشة لا تتحمل الصدمات من الآخرين، كما أن بعضهن يجدن في الحزن والهموم فرصة لاستجداء عطف الآخرين من حولهن، وبالذات من الزوج المتجاهل لحقوقهن العاطفية والجنسية، ولذلك فإنهن يمنحن للمرض مساحة أكبر من نفسياتهن التي تنهار أكثر وأكثر!
المطلقات
كما تؤكد الدراسات ان بعض المطلقات اللاتي يستسلمن لنتائج فشلهن الزواجي وتسيطر على تفكيرهن، وتحد من علاقاتهن الاجتماعية، ورغبتهن في الترفيه عن أنفسهن وعن أطفالهن، للخوف من نظرة المجتمع لهن بأنهن مرفوضات اجتماعيا، يصبن بالكآبة أكثر، لأنهن لابد أن يعشن قناعة صحية وهي أن الانفصال أحيانا يكون علاجا لهن ولأطفالهن بدلا من الاستسلام لأزواج يسقطون فشلهم، وانحرافاتهم الأخلاقية على أجسادهن، وعلى مسمع من أطفالهن!
كما إن المجال الترفيهي للمرأة مازال محدودا في مجتمعنا وتطاله الشبهات والرقابة باستمرار بهدف حمايتها، وصونا لكرامتها، لذلك يسيطر على الكثير من النساء الخوف من المبادرة للترفيه عن أنفسهن، وخصوصا عندما يرفض أزواجهن خروجهن لأماكن لا يعلمون عن حقيقة أهدافها شيئا. وهل هي ترفيهية أم تجارية أم مضيعة للوقت والمال؟ ثم تكون بعد ذلك سببا مباشرا في مفسدتها لنسائهم كما يتصورون!
إن كثيرات من المتزوجات الواقع عليهن العنف والظلم في محيطهن الأسري، لا يبادرن بالشكوى من الضرر الواقع عليهن أو على أطفالهن، بل يجدن في الصمت وسيلة للحفاظ على استقرار أسرهن، وحماية لأنفسهن من الطلاق وحرمانهن من أطفالهن، ولا يعلمن بأنهن في النهاية يدفعن بأنفسهن للاكتئاب الذي لا يرحمهن لأنه يقدمهن في مراحل مستعصية تحتاج لعلاج مكثف وطويل المدى!
وحقيقة أخيرة... إن الاكتئاب يدفع بصاحبه للانتحار لا شعوريا وخصوصا عند ضعيفي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وعند من لا يملكون التصرف الواعي والسليم حينما تواجههم مصيبة أو مشكلة!
ومع كل ما جاءت به الدراسات، لاتزال هناك حقائق تدق على الأبواب، هذه الحقائق تعلن ان مرض الاكتئاب إنذار يعلن عن نفسه للمجتمع حتى يحاول اللحاق والمعالجة قبل فوات الأوان
العدد 878 - الأحد 30 يناير 2005م الموافق 19 ذي الحجة 1425هـ