وسط إجراءات أمنية صارمة ومخاوف من حصول عمليات تفتعلها جهات مجهولة العنوان والهوية ضد مراكز الاقتراع تبدأ اليوم الانتخابات العراقية على أمل أن تنتهي على خير وسلامة. فالهدف من إجراء الانتخابات في النهاية اختبار القوى السياسية ومدى مناعتها والتزامها بالخطاب الذي أعلنت عنه قبل التصويت. وليس الهدف هو تعميق الشرخ الأهلي وتوسيع رقعة التباعد بين الناس وانزواء كل فئة في دائرة عشيرتها ومنطقتها وطائفتها ومذهبها.
المشكلة في العراق كما أظهرت الحوادث الأخيرة وجود ضعف في فكرة الدولة عند الناس. فالمفهوم السياسي المتقدم للدولة أصيب بالشلل بسبب هيمنة سلطة مستبدة طوال فترة امتدت أكثر من ثلاثة عقود. والاستبداد في النهاية يعطي نتائج معكوسة عن ذاك الخطاب الذي يتلفظ به المستبد. فالمستبد يقول دائما لتبرير تسلطه إنه يريد تعزيز فكرة الدولة ومنع الاحتراب الداخلي وتوحيد الناس في إطار دستوري إلا أن الكلام يذهب أدراج الرياح على أرض الواقع. فالاستبداد بهذا المعنى يضعف عند الناس فكرة الدولة ويحيلها على التقاعد بسبب تسلط الأجهزة الأمنية وهيئات المراقبة والملاحقة.
العراق هو نموذج يتحرك أمام الناس لقراءة مصير الدولة بعد رحيل المستبد واندلاع الفوضى بعد اجتياح قوات الاحتلال. فالنظام السابق عزز قوة الحاكم الفرد وعطل المؤسسات وتحولت الدولة إلى أدوات للمراقبة والملاحقة وطرد السياسة ومطاردة الناس، فانتهى الأمر إلى تفريغ الدولة من مهماتها الحقيقية وتحويلها إلى أجهزة قمع فاندفع أهل الدولة إلى سياقات تقليدية من طوائف ومذاهب وعشائر وقبائل ومناطق للحماية أو لضمان حياتهم اليومية وتحصين عائلاتهم من تدخلات أدوات القهر والاستلاب.
حتى الآن لم ينجح العراقيون في تجاوز عقدة الدولة المستبدة أو مفهوم الدولة التسلطية. فالدولة لاتزال عند الكثير منهم مجرد أجهزة للمخابرات تلاحق وتراقب تطرد وتقتل وليست مؤسسات للبناء والتعمير وتأمين الخدمات وتسهيل أمور العباد والدفاع عن حقوقهم وتنظيمها وفق قنوات القوانين وتحت سقف الدستور المشترك.
حتى الآن لم يشهد العراق على رغم رحيل المستبد ظهور دولة بديلة تعطي فكرة مغايرة عن ذاك المفهوم الذي ترسخت صوره في عقول الناس على امتداد جيل. فأشكال الدولة واشباهها التي ظهرت مقوضة بعد الاحتلال لم تكن ذاك البديل المرتجى. فالحكومة المعينة لخصت وظيفتها السياسية بملاحقة الملف الأمني واكتفت بتلك الصيغة بذريعة أن الظروف فرضت عليها مثل هذا الدور.
وحين وصل العراق إلى استحقاق الانتخابات وموعده المقرر "اليوم" اكتشف المراقبون الدوليون وجود حساسيات مفرطة تتجاوز السياسة وتتحكم بها مجموعة عوامل غير سياسية لها صلة بالمنطقة والعشيرة والقبيلة والمذهب والطائفة. وهذا الفضاء المشحون ليس مفتعلا إلا بحدود معينة. وهو أيضا لم يتولد بسبب المخاوف والتخويف وإنما بسبب سوء فهم الناس لفكرة الدولة وأخيرا مبدأ الانتخابات كوسيلة معقولة لطرح موضوع التداول السياسي للسلطة.
هذا المفهوم المتقدم للدولة يبدو أنه مغيب أو ضعيف بسبب نظام الاستبداد السابق ونظام الفوضى الناجم عن الاحتلال. وهذه عوامل غير مرئية أسهمت في تشنج الفرقاء وتمسكهم بمواقفهم انطلاقا من مفاهيم غير سياسية وتخضع بنسب عالية إلى اعتبارات تنص توجهاتها هيئات تقليدية لا تعترف أصلا بالدولة.
المقاطعة موقف سياسي وهي حق مشروع "حتى لو انطلقت من وجهة خاطئة" لكل فريق أو فئة. كذلك المشاركة هي موقف سياسي وهي حق مشروع "مهما كانت الاعتبارات التي تشوش صحة المبدأ" لكل فريق وفئة. إلا أن ما حصل في العراق تجاوز الأصل السياسي وانقلب بسبب تراكم الاستبداد وما أعقبه من احتلال وفوضى وتقويض للمؤسسات إلى تشنجات أهلية لا تقرأ بدقة الاحتمالات السلبية التي يمكن أن يتداعى إليها العراق في حال فشلت القوى الواعية في تجسير الاختلافات.
المشكلة إذا في تاريخ الدولة العراقية وضعف مؤسساتها التي تحولت إلى أجهزة تنقلب عسكريا على بعضها وتقمع الناس وتطردهم من السياسة وتطاردهم وصولا إلى مناطقهم النائية ومراكزهم التقليدية. والمشكلة أيضا أن وعي فكرة الدولة كقوة تقود التحولات والتقدم لم تتطور بعد في مختلف الأوساط، الأمر الذي اعطى قوة لعلاقات ما قبل الدولة أن تفعل فعلها وتقرر للناس مصالحهم ومستقبلهم.
اليوم ستعقد الانتخابات وسط المخاوف الأمنية والمهم أن تنتهي على خير وسلام، وبعد اليوم يبدأ العد الحقيقي لتاريخ الدولة الجديد. فهل ينجح العراق في تجاوز عقد الماضي أم يبقى ضحيتها وأسيرها الدائم؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 877 - السبت 29 يناير 2005م الموافق 18 ذي الحجة 1425هـ