اعتمدت الحركة الصهيونية في تاريخها على الاتجار بآلامها ودماء أبنائها بشكل بشع، ولكنه متقن أيضا ولا يقبل التشكيك في الذكاء والدأب اللذين قادا بهما العالم لكي يحتفل معهم بالذكرى الستين لتحرير معسكر أوشفيتز في بولندا.
وطوال السنوات الماضية، ظلت الحركة تقول إن عدد من لقوا حتفهم في معسكر الاعتقال النازي يتراوح بين ثمانية وتسعة ملايين يهودي، وذلك لأن الإكثار من رقم الضحايا يعني جلب المزيد من التعاطف العالمي مع يهود العالم "المتآمر" عليهم، ولكنهم رأوا أن العدد الكبير من القتلى سيحرم الدولة العبرية من مئات الملايين من الدولارات التي تجبيها من ألمانيا تعويضا لأهالي الضحايا، فتم تقليص العدد إلى ستة ملايين، وهناك من يقول إن العدد لا يعدو أربعة إلى خمسة ملايين، فيما يقول كاتب صحافي أميركي ومؤرخ بريطاني إن الصهاينة لايزالون يترددون في الإفصاح عن الرقم الذي يمثل لهم الفائدة القصوى من استثمار هذه المحرقة، فالعدد بحسب الوثائق السوفياتية لا يتجاوز 400 ألف قتيل، وهو رقم ليس بالقليل أيضا.
الصهاينة الذين فهموا اللعبة بشكل جيد، وراحوا يدقون على أوتارها، غطوا بحركتهم الموحدة - والقائمة على التغلغل الذكي في وسائل الإعلام المختلفة - على ما يفعلونه في الأراضي العربية المحتلة، فمنذ العام 1998 وحتى اليوم، تم إنتاج نحو 500 فيلم وثائقي، وروائي، وعمل تلفزيوني ومسرحي عن المحرقة، بينما سادت في المنطقة العربية "انتفاضة" إلكترونية تمثلت في رسائل قوية ومؤثرة ومدعمة بالصور للكيفية التي تعتمدها قوات الأمن الإسرائيلية لقمع الانتفاضة الفلسطينية، والأطفال الذين قتلوا منذ سبتمبر/ أيلول من العام ،2000 ولكن سرعان ما خبا الحماس، وتراجعت الرسائل، وتهاوى عدد المهتمين. إنها المثابرة التي تنقصنا عادة في تتبع حقوقنا، ومعرفة كيفية تسويقها، وربما المتاجرة بها إن اقتضى الأمر، إن كان العالم لا يفهم إلا "التسويق" لغة لكي يضعنا على الجانب الإيجابي من أجندته، فليكن، ولكن من سيلقي أول الأحجار في هذا المستنقع؟
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 876 - الجمعة 28 يناير 2005م الموافق 17 ذي الحجة 1425هـ