العدد 875 - الخميس 27 يناير 2005م الموافق 16 ذي الحجة 1425هـ

مدينة بعيدة عن أهل الأرض

الفارابي. .. وقصة المدينة الفاضلة "الأخيرة"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حمل الفارابي كتاب "المدينة الفاضلة" وأوراقه وارتحل مغادرا بغداد إلى حلب. القرار ليس سهلا الا انه يستحق المغامرة. فالفارابي لا يملك الكثير ليخسره، ولكنه يتمتع بذاكرة خصبة ومخيلة ومعارف متنوعة نجح في تجميعها في فترة عمره المديد. فهو صنع شخصية تألفت من مزيج ثقافات وعناصر عرف في النهاية كيف يدمجها في سياق متناغم يجمع المتفرقات من هنا وهناك ويعاود صوغها في إطار خاص هو نتاج بيئته وزمنه. وآراء أهل المدينة هو خلاصة تفكيره الذي تشبع بتجربة مرة شهدت الصعود والهبوط ونجت أخيرا من التصدع والانهيار. فالمدينة هي الشاهد على مخيلة خصبة عاندت الواقع وأخذت تبحث عن أرض جديدة لبناء تلك التصورات وتحويلها من صور عن الاجتماع "العمران" إلى حقائق مجسمة على أرض الواقع.

قرار الرحيل "المغادرة" لم يكن بعيدا عن تلك المخيلة. فالفارابي وجد في الدولة الجديدة "الحمدانية" فرصة تاريخية لا تعوض ولا تتكرر لإقامة تلك المدينة التي تصورها في مخيلته. فهو عاش وتنقل وارتحل وشاهد تلك المدن "الدول" ولم يكن له دوره الخاص في تشكيلها أو التأثير فيها وعليها. الآن هناك فرصة متاحة أمامه. فالدولة جديدة وأميرها الشاب "سيف الدولة" بحاجة إلى مجلس من الحكماء يساعدونه ويشاورونه في البدء في تأسيس مدينة "دولة جديدة" من الصفر. إنها فرصة عمره وهي لا تفوت واذا فاتت فإن الزمن لا ينتظر. ولن تتكرر المناسبة.

آنذاك كان سيف الدولة يمر في وضع صعب. فهو شقيق أمير الموصل "ناصر الدولة" الذي كان يتواجه سياسيا وعسكريا مع السلاجقة وبني بويه للسيطرة على بغداد. وكان سيف الدولة "أمير واسط" يتنازع النفوذ للسيطرة على بلاد الشام مع الدولة الاخشيدية في مصر. هذا الوضع أربك الامارة الحمدانية في الموصل وأضعف شوكتها في بغداد بسبب الصراع على النفوذ مع السلاجقة والبويهيين.

هذا الصراع انتهى إلى مفارقات غريبة لعبت المصادفات دورها في صنعها. فحين كان يتعرض سيف الدولة لضربات عسكرية من السلاجقة في بغداد وواسط كان الاخشيديون يتعرضون بدورهم لضغوط عسكرية من الفاطميين على الجبهة المصرية. وانتهى الاقتتال في فترة واحدة إلى نتيجتين: الأولى ان الاخشيديين اضطروا إلى سحب جيشهم من بلاد الشام وترك حاميات صغيرة فيها بسبب حاجتهم إلى تلك القوات لصد الحملات الفاطمية على مصر. وهذا ما افسح الطريق للحمدانيين لبسط نفوذهم على بلاد الشام. والثانية ان السلاجقة نجحوا في اجتياح إمارة واسط وفرض نفوذهم عليها وهذا ما اجبر سيف الدولة على ترك واسط للسلاجقة والتوجه بجيشه إلى حلب والقضاء على الحامية الاخشيدية هناك، والتعويض عن خسارته واسط.

انسحاب الاخشيديين من الشام لمواجهة الفاطميين على حدود مصر، وتقدم السلاجقة إلى واسط واندفاع الحمدانيين إلى حلب جاء في وقت واحد مع نجاح البويهيين في السيطرة على بغداد.

إنها لعبة وقت ولكنها تنسجم أيضا مع مبدأ تعبئة الفراغات ودور الضغوط المتعاكسة في انتاج حالات غير متوقعة. فالتاريخ أحيانا يشبه المخيلة فهناك الكثير من الأمور يتوقع حصولها ولا تحصل، وهناك الكثير من الوقائع لا يتصور حصولها وتقع. وهذا ما شهدته تلك المنطقة في فترة زمنية قصيرة، اذ ظهرت فيها ثلاث دول جديدة في وقت واحد. إحداها للبويهيين في بغداد وأخرى للحمدانيين "تلك القبيلة العربية التي كانت تعرف في الجزيرة العربية بصلات القربى مع بني تغلب" في حلب.

ارتحل الفارابي إلى حلب مع بدء تأسيس الدولة الحمدانية هناك في سنة 333هـ "944م". ولم تكن خطوة الفارابي خاطئة فهو سار في الاتجاه الصحيح ليشهد نمو دولة قوية بقيادة سيف الدولة. وسيكون لتلك الدولة الصغيرة دورها المميز في رعاية الأدب والفكر والفلسفة والشعر والموسيقى. كذلك ستلعب دورها الخاص في محاربة القوات البيزنطية التي كررت هجماتها على الثغور الإسلامية وشمال بلاد الشام.

لم يعش الفارابي كثيرا بعد تأسيس دولة الحمدانيين في حلب. فالفارق بين رحيله من بغداد ووفاته في دمشق لا يتعدى السنوات الست الا انها كانت كافية لمشاهدة بعض ما لعبت به مخيلته. فخطوة الفارابي كانت صحيحة ولكنها ناقصة. فالفارق بين الواقع والمخيلة كان شاسعا إلى حد كان من الصعب تغطيته في فترة قصيرة. كذلك واجهت النظرية صعوبات تطبيقية كثيرة. فالبشر شيء والمخيلة مسألة أخرى. والممارسة لا تعكس بالضرورة النظرية نظرا إلى تعقيدات الواقع واختلاف أمزجة البشر وصعوبة توحيد الناس في تجربة مشتركة. فالتجربة كانت صادمة ولكنها غنية بالمفارقات.

كانت بدايات الفارابي جيدة في حلب. وهو لكبر سنه تحول إلى الرجل المقرب والقريب من سيف الدولة. فالأمير الشاب كان بحاجة إلى حكمة الشيخ وتجربته وعلومه ومعارفه وتسامحه ومواهبه المتعددة وانفتاحه على مختلف الاتجاهات وعدم تعصبه لفكرة أو موقف أو مذهب. وهذا النوع من التفكير كان سيف الدولة يحتاجه لتأسيس دولة متسامحة تتسع لكل العصبيات والاتجاهات وتستقبل براحة كل الوافدين أو الطالبين للاستقرار والاقامة في ظل سلطة أمير يحترم الثقافة ويتقبل الاختلاف. وهذا الموقع الخاص دفع الحمداني الى الطلب من الفارابي مرافقته في رحلته الأخيرة الى دمشق وهناك مات ليدفنه سيف الدولة ويصلي عليه في العام 339هـ "950م".

شهد عصر سيف الدولة الذي امتد قرابة 23 سنة مفارقات كثيرة فهو كان يحب العلم والشعر والأدب والموسيقى وفتح داره لكل شعراء وعلماء وأدباء عصره فاشتهر بهذا الجانب وتخلد اسمه في التاريخ. وأيضا كان رجل حرب وقتال وشهدت دولته في جبهتها الشمالية منازلات ومعارك كر وفر بينه وبين البيزنطيين. إلا ان دولته لم تكن على صورة دولة الفارابي ونموذجه... ولن تكون. فالمدينة عند الفارابي متخيلة بينما هي عند سيف الدولة مرصوفة الابنية وفيها ذاك الخليط الذي يصعب دمجه وإعادة صهره في معدن جديد. فكل معدن له أصل. وجوهره لا يتكيف بالضرورة مع جواهر المعادن الأخرى.

كان من الصعب ان تتموضع مخيلة الفارابي في الواقع وخصوصا في مدينة تتعرض كل فترة لاجتياح خارجي أو تتهددها المخاطر من رؤساء دول مجاورة أو من "نوابت" تزعزع استقرارها من الداخل.

مبادئ مدينة الفارابي صحيحة في مواصفاتها العامة وتصاميمها الهندسية "البشرية" الا ان مبانيها صعبة التطبيق وليس سهلا على الناس تقبلها أو التوافق معها لاسباب كثيرة منها انها ضد الفطرة أحيانا وتعتمد على اخلاقيات عالية يصعب ظهورها دائما أو تلاقيها في فترة زمنية واحدة.

مبادئ الفارابي تنطلق من الاجتماع "العمران" وتفترض صحة التعاون بين الأشياء لنيل السعادة المشتركة. ورئيس المدينة هو القلب "تصاميم الهندسة عند الفارابي تحاكي بدن الانسان". والقلب عنده هو مركز الأعضاء والاعصاب ومنه تتفرع المراتب من ذاك الرئيس الى هيئات متفاضلة واحدة بعد أخرى إلى أن تنتهي المدينة إلى اجزاء أو أعضاء تخدم ولا ترأس وهؤلاء يكونون في أدنى المراتب.

تقوم مبادئ الفارابي على فرضيتين: الوظائف والتعاون. فكل هيئة "عضو في البدن" له وظيفته. والهيئات "أعضاء البدن" تتعاون لتوفير السعادة للإنسان.

لكن المجتمع "الاجتماع البشري" يختلف إنسانيا عن التركيب العضوي لبدن الانسان. فهناك التنافس والتزاحم والحسد والغيرة والشريف والحاقد والقوي والجبان والسوي والمختل وكلها عناصر من الصعب اجتماعها أو يصعب على الرئيس اقناعها بضرورة التعاون والاقرار بامكاناتها. فالمسألة بحاجة إلى تواضع ووعي وهذا لا يتوافر دفعة واحدة لأبناء مدينة جمعهم القدر للعيش في ابنية متجاورة وزمن واحد. حتى الرئيس الذي اقترحه الفارابي "أو تصوره" ليحكم مدينته غير موجود في الواقع. انه من نسج مخيلة توهمت اجتماع عناصر فذة في شخص واحد يصعب ان نجده الا في سير الأنبياء والأئمة الكبار. فالرئيس /النبي، أو الرئيس/ الإمام أو الرئيس/ الفيلسوف أو كل هذه الصفات أرادها الفارابي مجسمة "أو متجسدة" في رئيس مدينته. وهذا ضرب من المحال. فالرئيس المتخيل لا وجود له وهي صورة نسجها الفارابي من الوهم أو نسخها من تلك الرموز السحرية والحكايات الجميلة التي سمعها من والديه في فاراب عن وقائع اختفاء الامام المهدي في سراديب سامراء.

مدينة الفارابي مخيلة طفل عاش حكايات وقائع اختفاء الامام وعاشت معه وكبرت ونضجت علما ومعرفة وأعاد تصور صور تلك الحكايات في فلسفة جمعت الكثير من الخيال والقليل من الواقع.

سيف الدولة ليس ذاك الرجل المتخيل ودولة بني حمدان ليست تلك المدينة. ببساطة تلك المدينة هي فارابية "افلاطونية" جمعتها مخيلة انسان من حكايات طفولة ووقائع زمن وجيل كافح من أجل سعادة كاملة لا وجود لها إلا في السماء أو في مكان آخر لا صلة له بآراء أهل الأرض

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 875 - الخميس 27 يناير 2005م الموافق 16 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً