عندما كان الزعيم المصري سعد زغلول وزيرا للمعارف، تقدم إليه أحدهم طالبا ابتعاثه إلى أوروبا لمواصلة الدراسة، فلاحظ أنه كبير السن، فسأله: ألست متزوجا؟ فأجاب: نعم، بنعمة الله وفضله! فعاد يسأله: وكيف تستطيع أن تنفق على زوجتك أثناء غيابك؟ فقال من دون تردد: سأطلقها يا سيدي! ولأن زغلول لم يكن يتوقع أن تصل الوقاحة بأحد إلى هذا المستوى، فإنه أسقط اسمه من جدول المرشحين للبعثات، وكتب على طلبه: "مثل هذا لا يؤتمن على تعليم أبنائنا".
ولأن محمدا "ص" كان كثيرا ما يوصينا بالعقل، حتى قال كلمته الجامعة المانعة: "إن ديني العقل"، ليست لدينا أشياء أو أشخاص فوق العقل. ومن هنا لا يوجد لدينا شخص "سوبرستار" لا يراجع في أفكاره أو ينتقد في أفعاله، وخصوصا إذا كان من النكرات التي يجري تلميعها في هذا الزمن الرديء، ويتم تنصيبه تحت جنح الظلام ناطقا باسم الملايين مادام يلبس عمامة سوداء أو بيضاء أو رمادية من النوع المشبوه، في العواصم المتواطئة مع المحتلين، التي أصبحت "تصدر" نظريات الأهلة والأقمار والنجوم!
أحد أصحاب هذه العمائم النخرة اسمه حسين، أراد قبل خمسة وعشرين عاما أن يستغل عمامة جده روح الله الخميني الكبير، ليلعب دورا أكبر من حجمه، لمجرد أن جده هو الذي أطاح بعرش الطاووس وحرر الشعب الإيراني من قبضة الشاهنشاهية البغيضة. ولأن الجد لم يكن يعرف لغة المحاباة أو يترك لقلبه المجال لتنصيب الأقارب والأحباب، ولا يعترف بالنسب طريقا للمناصب العليا من دون كفاءة واستحقاق، فإنه عاقبه بالنفي إلى مدينة قم، بعيدا عن بريق عالم السياسة وأضواء العاصمة طهران التي كانت تعيش فترة عرسها الثوري آنذاك.
خمسة وعشرون عاما عاشها في الظلام، ولم تتح له الفرصة للظهور مرة أخرى إلا بعد احتلال الأميركان للعراق، هنالك تسلل عبر الحدود ولجأ إلى المنطقة الخضراء في بغداد، ليعيش في أحد القصور بالقرب من قصر الحاكم الأميركي هناك، ولتتلقفه "بعض" وسائل الإعلام بالمانشيت العريض: "حفيد الخميني يريد الإطاحة بنظام طهران"!
واليوم، في عصر النجوم الخابية والأهلة الكاذبة، يقوم الإعلام نفسه بتسويق مثل هذه النماذج الثرثارة، التي تعشق الظهور تحت الأضواء وتستهويها شاشات التلفزة، وأنت تشاهد الفضائيات، وترى توالي "الأبطال" الجدد في هذه المرحلة، وتكرار وجوه الشخوص نفسها، وتتساءل: من يكون هؤلاء؟ ومن يمثلون؟ وباسم من يتكلمون؟ ومن الذي خول ذاك الثرثار الصغير للحديث باسم 65 مليون إيراني، ومن خول هذا الثرثار اليوم ليتحدث باسم 25 مليون عراقي، ليفتي لنا من تحت جبته بأننا "سندفع للأميركيين حتى يبقوا يحتلون بلادنا"؟
ولكيلا تنصب هذه النماذج نفسها ناطقا وحيدا باسم مذهب إسلامي عريق يتبعه الملايين في الشرق والغرب، وتبيح لنفسها احتلال الشاشة "الشيعية" كلها، نبادر إلى القول: إن المسألة العراقية واضحة، وسياسة المرجعية التي تمثل ضمير العراق عبر التاريخ لا تقبل المزايدات: اختيار أقصر الطرق وأقلها إيلاما ودماء لتحقيق هدف استقلال البلد وخروج المحتل، من دون زيادة أو نقصان، أما هذه الدعاوى المرفوضة، فلا تعبر إلا عن نفسية وشخصية من يطلقها، هو المسئول وحده عنها أمام الله والأمة والتاريخ، ولا تسأل عنها الشعوب التي دفعت الأثمان الباهظة للتحرر من نير الاستبداد الداخلي... لتنتهي تضحياتها المقدسة عند دعوة هؤلاء الحمقى إلى الاستعباد الخارجي!
ستون أو سبعون عاما والشعوب العربية ترفض هذا الطرح الانبطاحي العقيم، دفعت خلالها من عظام أبنائها وشرفائها وقودا لمحارق الأنظمة العربية، حتى امتلأت السجون بالضحايا والقرابين، أجيالا بعد أجيال، على امتداد هذا الأوطان المكبلة من المحيط إلى الخليج، ثم يأتي لنا هؤلاء الأقزام في آخر الزمان ليسوقوا هذه النظريات الباطلة.
الثرثار الإيراني حاول الدخول إلى الحلبة عبر عمامة جده الكبير رحمه الله، فلما أخفق تسلل لاجئا إلى المنطقة الخضراء المحتلة في بغداد! من الظلام جاء وإلى الظلام ذهب... فهل تسمعون له من صوت اليوم؟
أما هذا الثرثار العراقي المكثر فأراد المروق بعمامته عبر حكاية تقديم الشاي يوم كان في العاشرة إلى الشهيد العملاق محمد باقر الصدر "رض"، وفي يقيني أنه لن يفلح، فمن الظلام جاء وفي الظلام سيذوب، لأن عقله لم يستوعب درسا بسيطا في ملحمة التاريخ: إن البلدان ليست سكرابا للتأجير... وأن الدهاقنة المجهولون الهوية لا يؤتمنون على الأوطان
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 874 - الأربعاء 26 يناير 2005م الموافق 15 ذي الحجة 1425هـ