ثلاثة أيام تفصل العراق عن موعد الانتخابات، وكل المؤشرات تدل على ان دعوات المقاطعة والتأجيل لم تلق الصدى المطلوب. فالوجهة العامة تغلب الدخول في اللعبة على رغم السلبيات المحيطة بالعملية. السلبيات كثيرة لا شك وكان يفضل ان تتفاهم كل القوى على موقف موحد قبل عقد الدورة، إلا أن التمنيات لا تنفع في بلد اغتاله الاحتلال واستباح دم أهله.
الآن أصبحت دعوات المقاطعة والتأجيل خلف عقارب الساعة وبدأ يشتد التنافس بين اللوائح التي بلغت 110 قوائم ترشح عليها 7636 لاحتلال 275 مقعدا. القوائم كثيرة وكذلك تعداد المترشحين وهذا يدل على وجود زعامات لا حصر لها ترى في نفسها القوة القائدة للمجتمع. فكل فئة تعتبر نفسها الأقوى وكل لائحة تتصور ان المجتمع العراقي يحالفها أو يؤيد وجهة نظرها. وهذا ما عطل امكانات تجميع القوى في قوائم قليلة نظرا إلى صعوبة اقناع كل تيار سياسي أنه لا يمثل كل العراق.
التعدد الفائض عن الحاجة والتنوع الزائد على اللزوم والتفكك في الزعامات ليس دائما دليل عافية وصحة، ولكنها جملة أمور كانت متوقعة من بلد عاش أكثر من 40 عاما في ظل دكتاتوريات وانقلابات عسكرية ثم انتفاضات وحروب واستبداد طويل الأمد. فالعراق لم يختبر قواه منذ سنوات طويلة وكل حزب سياسي يقيس وزنه ضمن حسابات خاصة وأحيانا خاطئة وكاذبة ليستنتج أن تياره الوحيد القادر على انقاذ البلد من تلك الكوارث التي حلت به.
الانتخابات العراقية المقبلة يمكن اعتبارها بداية تجربة وخطوة أولى في حقل صعب يحتاج إلى مراس طويل وقناعات "ديمقراطية" لقبول نتائج محصوله. فالكل حائر بين القبول بالآخر أو نفيه ولكنه في النهاية لا يستطيع التهرب من مختبر شعبي له حساباته وهو في النهاية يعطي القياس الحقيقي للأوزان والأحجام. إنها بداية طريق. ومثل كل بداية تبدو الخطوات الأولى مترددة ومضطربة. إلا ان الذهاب إلى صناديق الاقتراع يبقى أفضل بكثير من التنازع وراء المتاريس.
العراق الآن بحاجة إلى هدنة سياسية مع نفسه ووحدة وطنية ضد الاحتلال للاتفاق على طرده إلى غير رجعة. والهدنة لا تتوافر في اجواء تسودها الكراهية والنفاق والحض على الفتنة والتقاتل والاقتتال. الهدنة بحاجة إلى عقل وتعقل والتكيف مع الواقع والعمل سوية من أجل تغييره. وهذا لا يتم من دون التفاهم على قياس مشترك لتحديد الأحجام والأوزان واحترام الكبير للصغير وقبول الصغير حكم الكبير.
إلا ان المشكلة تبقى في النظام الانتخابي، فالآلية اعتمدت العراق دائرة واحدة واتخذت النسبية معيارا للقياس وهي لا تساعد كثيرا على تكوين غالبية نيابية. فالنظام النسبي في بلد مفكك ومتوزع على عشرات مراكز القوى والزعامات والقيادات يولد مجموعات نيابية كبيرة وصغيرة متنافرة ولا توجد بينها مجموعة واحدة تتمتع بأكثرية راجحة في البرلمان. وهذا الاحتمال السلبي يرجح ان يعطل السلطة التشريعية ويمنع التفاهم على مواقف مشتركة من القضايا المصيرية المطروحة على الشعب.
لذلك يتخوف لاحقا ان تظهر مشكلات سياسية في نسج تحالفات وطنية تحت قبة المجلس النيابي، وخصوصا اذا حاولت التكتلات الصغيرة فرض شروطها على الكبيرة وابتزازها بالمقاعد لمنع الأخيرة من تشكيل حكومة متجانسة وموحدة في الاهداف السياسية. هذا الاحتمال ليس مستبعدا في حال لم تتوصل الكتل النيابية إلى قناعات سياسية ترتب مجموعة أولويات تبدأ بمطالبة الاحتلال بالخروج من البلاد واحتواء الفوضى الأمنية ووضع خطة عملية لانقاذ ما يمكن انقاذه والبدء في ورشة إعادة إعمار ما دمرته القوات الأميركية.
مسألة التفاهم صعبة إلا أنها ممكنة لأنها الوسيلة الوحيدة القادرة على نزع الذرائع من الاحتلال وقطع الطريق عليه حتى لا يحتج بها لتمديد فترة وجوده والاستمرار في تهديد دول الجوار واستفزازها وابتزازها.
ثلاثة أيام تفصل العراق عن موعد الانتخابات، وحتى الآن تبدو الأمور سالكة على رغم تلك الدعوات التي تطلق تصريحات تحض على الكراهية العرقية والفتنة والطائفية والمذهبية والاقتتال الأهلي. فتلك الأصوات التي ترتفع أحيانا من بغداد أو عمان لم تجد لها الصدى السياسي وخصوصا لدى الجهات العراقية التي يبدو انها اكتشفت مدى خطورتها على وحدة الدولة ومستقبل العراق.
الانتخابات حاصلة ويبقى السؤال عن مدى تقبل القوى السياسية لنتائجها ومدى استعداد التكتلات للتوحد السياسي لفترة ما بعد الانتخابات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 874 - الأربعاء 26 يناير 2005م الموافق 15 ذي الحجة 1425هـ