أنهى الرئيس الإيراني محمد خاتمي قبل يومين جولته الإفريقية التي استمرت 12 يوما وشملت 7 دول إفريقية، وقع خلالها الكثير من مذكرات التفاهم عن نقل التكنولوجيا وأخرى لتشييد مصانع للجرارات والسيارات ونقل الكهرباء وإيجاد محطة توليد الطاقة والتعاون الزراعي وإقامة دورات تدريبية للتقنيين والتعاون في الخدمات الفنية والهندسية والتلفزيونية.
وعلى رغم أن الزيارة كانت نوعية كما صرح خاتمي بذلك لدى وصوله مطار مهراباد الدولي في طهران، فإنه قال أيضا إن هذه الجولة جاءت متأخرة ولو تمت قبل 3 سنوات لكان تأثيرها السياسي والاقتصادي والدولي أكبر، ويكون ما قاله الرئيس خاتمي إشارة إلى أحد أمرين: الأول هو ان هذه الزيارة تمت في أيام عهده الأخيرة إذ لم يتبق له سوى وقت ميت يقل عن 4 أشهر، وبالتالي فلن يستطيع الاستمرار في إكمال نتائج تلك الجولة بالبرامج والمرئيات ذاتها التي ينظر إليها هو وتيار اليسار الديني الراديكالي الذي ينتمي إليه؛ أما الأمر الثاني فهو ان إيران تأخرت فعلا في توطيد علاقاتها مع إفريقيا بالشكل الذي كان مفترضا ومتيسرا في الوقت نفسه، وبالذات النفوذ في الوسط والقرن الإفريقي على رغم أن الطريق كان سالكا وكلفه غير باهظة. وربما كان ذلك التأخير ناتجا عن زهد إيراني في قدرة تلك الدول على التأثير في المعادلة الإقليمية والدولية، وبدت طهران محرجة كثيرا بعد إعلان تلك الدول في الوسط والقرن الإفريقي مساندتها لإيران في أزمتها النووية مع وكالة الطاقة الذرية والاتحاد الأوروبي من جهة والولايات المتحدة الأميركية وكندا من جهة أخرى.
على أية حال فالزيارة تمت واستشرفت من خلالها آفاق جديدة للتعاون وصوغ تشكيلة أكثر متانة للعلاقات التجارية والدبلوماسية يمكن قراءتها من عدة نقاط:
"1" إن إيران كانت تنظر إلى القارة السمراء باعتبارها ملفا يمكن تأجيله إلى حين باعتبارها مكانا لايزال بكرا وغير ملتفت إليه بالحجم الذي يتطلب الإسراع في وتيرة توضيب العلاقات وبإلحاح. كما أن تلك الرقعة الجغرافية لاتزال منطقة خصبة للاحتراب والتقاتل، ما يجعل الدخول إليها مرهقا ومكلفا أيضا، لذلك فقد قرر الإيرانيون العمل عليها من خلال سياسات طويلة الأمد وبطيئة وبعيدة عن الأضواء ربما لجعلها مخزونا دبلوماسيا احتياطيا يمكن التزود منه عند الحاجة.
واقتصر النشاط الإيراني الظاهر على مناكفة التبشير المسيحي وإرسال الدعاة والتركيز على العمل الثقافي. والغريب أن النشاط السياسي والاقتصادي الإيراني في أميركا الجنوبية يفوق بكثير حضوره في إفريقيا على رغم المسافات الفلكية. ويبدو الآن أن إيران ربما غيرت وجهة النظر تلك، وكانت أولى بوادر ذلك التغيير هو قيام شركة خودرو الإيرانية الضخمة للسيارات "أضخم شركة لتصنيع السيارات في الشرق الأوسط" ببناء مصنع لها في العاصمة السنغالية دكار لإنتاج سياراتها المسماة سامند تمتلك منه شركة خودرو نحو 60 في المئة، إذ سينتج في مرحلته الأولى 5 آلاف سيارة كدفعة أولى، و15 ألف سيارة كدفعة ثانية، و20 ألف سيارة كدفعة ثالثة. كما لوحظ أن إيران بدأت في الاهتمام بقضية دارفور حين زارها وزير الخارجية كمال خرازي مبتعثا عن الرئيس خاتمي للوقوف على تداعيات الأزمة، كما اهتمت إيران بقضية الجنوب السوداني وعرضت غير مرة تقديم الدعم السياسي لأي مشروع سلام ينهي الحرب الأهلية هناك.
"2" تعتقد إيران أن الدخول إلى الوسط الإفريقي بعد أن فرغت من تجسير علاقات جيدة مع معظم دول شماله، ربما تكون مدخلا لتشجيع الآخرين من القارة نفسها أو ربما إحراجهم لكي يقيموا علاقات أكثر متانة معها، وأهم المعنيين في ذلك الأمر هو مصر التي لاتزال تتأرجح علاقاتها مع إيران بين مد وجزر، وبالتالي تستطيع طهران عبر القفز إلى ما وراء حدود مصر إلى فرض أمر واقع له استحقاقاته التي ستفرض نفسها على عموم القارة، وإن ما يزيد من واقعية وأهمية ذلك البعد هو الموقع الاستراتيجي للوسط الإفريقي وما يحاذيه من أرض، فهي حلقة وصل مهمة بين الجزء العربي لإفريقيا، وجزء جنوب الصحراء.
"3" أدركت إيران بعد الضغوط المتزايدة عليها من قبل الولايات المتحدة الأميركية بسبب برنامجها النووي أن توسيع علاقاتها إلى ما وراء الخليج سيكون أفيد، وخصوصا أن تلك الضغوط قد يقل منسوبها بتعدد خيارات السياسة الإيرانية الخارجية، وبالتالي فإن إفريقيا لم تعد رقما سهلا أو بطنا رخوا في تلك المعادلة، وخصوصا أن الوجود الأوروبي وتحديدا الفرنسي هو حاضر بقوة في القارة السمراء والبحيرات العظمى "السودان - أوغندا - رواندا - بورندي - الكونغو الديمقراطية - كينيا - تنزانيا - أثيوبيا - إريتريا"، الذي ازداد بعد العام 1997 بعد إعداد وزارة الخارجية الفرنسية لـ "مشروع إفريقيا"، وهو ما سيساعد أي تحرك سياسي أو تجاري تقوم به إيران في تلك المنطقة.
أضف إلى ذلك فقد تقوم طهران باستثمار الخلاف الأوروبي مع الولايات المتحدة عن سعي الأخيرة لإقامة مشروع القرن الإفريقي الكبير الذي يضم إلى جانب دول القرن الإفريقي التقليدية "إثيوبيا - إريتريا - الصومال" كلا من أوغندا، ورواندا، وبوروندى، والكونغو الديمقراطية، وجنوب السودان - بعد فصله عن السودان - بهدف إنشاء قاعدة تجارية وصناعية لصالح شركات التعدين والنفط الأميركية، وهو ما يعطي طهران فرصة أكبر للمناورة واستحلاب ما يمكن استحلابه من مناطق الصراع المنهكة.
"4" تشعر إيران بقوة التغلغل الإسرائيلي في القارة السمراء والهادف إلى توسيع كسر حال العزلة العربية والإسلامية وإيجاد مجال اقتصادي حيوي ونشط عبر التبادل التجاري مع دول القارة، ومن ثم القفز على مصر وتهديدها بمياه النيل بعد السيطرة على منابعه. وكان التدخل الإسرائيلي لعب على عدة مستويات أهمها العمل على إبراز قضية أن الحركة الصهيونية العالمية والإفريقية والزنجية هي مسألة شبه متماهية وتحمل المشروع والهموم ذاتها، يضاف إلى ذلك دعم جماعات إفريقية محددة كجماعة الدنكا في جنوب السودان، وسابقا الأمهرا في إثيوبيا والإيبو في الإقليم الشرقي لنيجيريا، يضاف إلى ذلك الحركة المتسارعة لهجرة اليهود الفلاشا من إثيوبيا التي رفعت نسبة اليهود الأفارقة في فلسطين إلى 18,5 من مجموع السكان. وعليه وأمام ذلك الخطر الإسرائيلي فقد سعت إيران إلى توسيع علاقاتها مع دول القارة، واستبقاء تسويرها بما يمكن من مشروعات النفوذ.
"5" قد تكون طهران راغبة في تسويق منتجاتها العسكرية في القارة السمراء وخصوصا بعد تطور تلك الصناعات وازدهارها وحجم المردود الذي يأتي من خلالها، علما بأن إيران قامت بتزويد السودان قبل أكثر من 3 سنوات بسيارات نقل الجنود والعربات العسكرية. وربما تهدف طهران "بالإضافة إلى المردود المادي" من قطع النفوذ الأميركي هناك الذي عادة ما يستخدم التكنولوجيا العسكرية ومعداتها وسيلة لتثبيت وجوده من خلال الفنيين والخبراء العسكريين
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 873 - الثلثاء 25 يناير 2005م الموافق 14 ذي الحجة 1425هـ