في الأسبوع الماضي كنت مصطفا في الطابور أمام نضد المحاسب في فرع البنك الأهلي المتحد في جدحفص، لإجراء معاملة قبل العيد بيومين، وكان يقف ورائي شخص لا أعرفه ولا يعرفني، ولكن كعادة البحرينيين الذين لا يعترفون بوجود حواجز تمنعهم من الحديث التلقائي مع الآخرين، بدأ في الحديث عن مشكلة الشرق الأوسط الكبرى: "البونس"! الرجل من لهجته تكتشف أنه ليس من المنطقة المحيطة بفرع المصرف المذكور، ربما كان من المنامة وقادته رجلاه إلى هذا الفرع، أو ربما كان من البديع. وهو موظف حكومي، وكغيره من الآلاف من أبناء هذا الوطن، كان موعودا بنيل هذا الفتات الزهيد، لذلك بادرني بالسؤال عن رأيي، بما ينم عن انه مازال يتشبث بقشة من الأمل: "هل تعتقد بأنهم سيعطوننا البونس"؟ فأجبته باقتضاب: "الله أعلم، عموما مازالوا يناقشون الموضوع في البرلمان".
كان من الواضح أن الكيل قد فاض به، فأخذ يتذمر مطلقا كلمة من العيار الثقيل: "والله هؤلاء يعاملوننا مثل الـ..."، وأطلق اسم الحيوان الذي يسمى صوته نباحا. حاولت أن أخفف من حدة اللهجة ولكنه أضاف: "ثلاثة أشهر وهم يناقشون هذه القضية، ولكن لو كان امتيازا لهم لما ماطلوا في إقراره كل هذه الفترة".
في مساء اليوم نفسه التقيت أحد الأقارب المقيمين في الكويت، وكان عائدا لإجازة العيد ولقاء العائلة، ولفت نظره كل هذا النقاش الطويل العريض بشأن مئتي دينار في صحافتنا المحلية، وقال فيما يشبه الاستنكار: "كيف ترتضون أن تشاركوا أنتم ككتاب وصحافيين في هذه المهزلة التي تذل الإنسان البحريني؟". ولم يترك لي الفرصة لأوضح له انني لم أكتب كلمة واحدة بهذا الخصوص من قبل، لقناعتي التامة بأن مثل هذه الأساليب إنما تنطوي على نوع من الإذلال السادي للإنسان وامتهان لكرامته. وأن مثل هذه الممارسات تصلح لأزمنة السلاطين وممالك القرون الوسطى، ولا تصلح للدول المتحضرة في القرن الحادي والعشرين، وأن الثروة القومية ينبغي أن تجتهد الحكومات في توزيعها على أبناء الشعب كافة من دون تفرقة أو تمييز، وأن البرلمان الذي ينشغل في جلساته لعدة أشهر في مناقشة: "هل نعطي هؤلاء "الـ..." مبلغ 200 أو 500 دينار"، هو برلمان يثبت على نفسه تهمة العجز والفشل.
طبعا الرجل قادم من بلد الوفرة النفطية، إذ اعتاد الناس على تبديل سياراتهم كل عامين، وإذ يمكن الحصول على تسهيلات كبيرة في تملك الأرض وشراء المنازل، بينما في هذا البلد أصبح الجيل الحالي من أبناء الطبقة الوسطى عاجزا عن شراء أرض فضلا عن التفكير في بنائها. ولم يدر صاحبنا أن من ثمار المرحلة الجديدة التي نعيشها منذ ثلاثة أعوام، أن الدولة أصبحت تتباهى بأنها فتحت الأبواب على مصاريعها أمام الخليجيين لتملك الأراضي، من دون أن تكترث لما يعنيه هذا من خلق مشكلات اجتماعية كبرى سيدفع البلد ثمنها كبيرا بعد حين، حين لا يجد المواطن لنفسه مأوى يضم شتات عائلته، وعلى المحظوظين أن يتكيفوا مع الإيجارات مدى العمر... حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا!
لم يدر صاحبنا أن هناك من يعيش على حد الكفاف في هذا البلد، وأن الشاب الذي يريد أن يحصن نفسه بالزواج عليه أن يغرق في القروض الربوية لمدة عشرة أعوام على الأقل حتى يخرج منها، وأن مبلغ المئتي دينار، هذا المبلغ التافه جدا بلغة أهل المال والاقتصاد، ربما ينتشل الكثير من الأسر والعوائل المدقعة، من مآزق حقيقية ومعاناة يومية لا يشعر بوطأتها المترفون والمنعمون والبرلمانيون المماطلون
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 873 - الثلثاء 25 يناير 2005م الموافق 14 ذي الحجة 1425هـ