المتابع للتبريرات التي ساقها أعضاء مجلس النواب حين تقديم مقترح بطلب راتب تقاعدي، أنهم دخلوا في كل الجوانب التأمينية التي تخص حياتهم الشخصية ومستقبلهم بعد أن يغادروا مجلس النواب، وربما هذا الحرص الدقيق منهم على كل هذه التفاصيل التي هي بمثابة البوح المكثف عما في أنفسهم من هواجس ومخاوف لكون الأمر متعلقا بهم، ولهذا فهم يدققون في التبريرات التي يسوقونها ترافعا عن مصالحهم بشكل جيد، بخلاف الكثير من المقترحات التي مرروها، وفيها إضرار بمصالح الناس مباشرة.
يجب محاكمة ما ذكره النواب من تبريرات بشأن "الراتب التقاعدي"، ومنها، استقلالية قرار النواب عن الحكومة. والسؤال: هل السبب في تهاون النواب في مراقبة أداء الحكومة في الفترة الماضية من عمر المجلس عدم وجود راتب تقاعدي للنواب؟ وهل السعي إلى تمرير المشروعات المضرة بمصالح الناس مثل قانون "التجمعات العامة" وقانون "الجمعيات السياسية"، ومثل ذلك تساهلهم في ملفات الفساد في الهيئتين والكهرباء، وإغلاقهم ملف التجنيس السياسي بالطريقة التي أغلق بها، وعدم متابعتهم لملفات الفساد التي تكتشفها الصحافة كالفساد في الأوقاف الجعفرية والسنية، والفساد في بنك الإسكان سببه أنهم غير مستقلين عن الحكومة بسبب عدم وجود الراتب التقاعدي؟
إذا كان الجواب بالإيجاب: فلم رشح النواب أنفسهم لدخول البرلمان، ورفعوا أكثر من شعار لم يتحقق منه شيء؟ أما إذا كان الجواب بالسلب، فما سر تهاون النواب في مراقبة أداء الحكومة وفي تمرير المشروعات والقوانين المضرة بمصالح الناس؟
إن حديث النواب عن الاستقلالية في القرار، وربط ذلك بالراتب التقاعدي لا يحمل أية وجاهة في الرأي، فما لا يريد النواب الإفصاح عنه، هو أن سقف التجربة البرلمانية الحالية لا يتعدى ما تحمله التجربة من أدوات دستورية محدودة، ومنها التهديد بإنهاء التجربة إذا ما ارتفع سقف مطالب النواب، أو كانت رقابتهم لأداء الحكومة صارمة، ما ينذر بعدم التعاون تلقائيا بين سلطة التشريع وسلطة التنفيذ، وحل المؤسسة التشريعية لصالح السلطة التنفيذية.
إن فهم النواب لهذه الحقيقة جعلهم يضعون لأنفسهم وبشكل فطري سقفا أدنى من السقف الذي تحتمله التجربة الحالية، فلم يعارضوا الحكومة معارضة جدية في أي شيء، وهم لا يريدون أن يتحملوا أعباء هذا التمثيل على المستوى الشخصي ما دام هناك من ينوي الدخول ليدفع الضريبة، لكنهم يريدون أن يتمتعوا بمكاسب هذه التجربة في هذا الظرف الاستثنائي، ومن هذه المكاسب الراتب التقاعدي.
إن هذا الظرف الاستثنائي التي تمثل فيه هذه التجربة نقطة خلاف وتجاذب بين المعارضة والحكم لا ينبغي أن يكون مصدر تكسب للنواب استثمارا لفرصة عدم وجود تمثيل شعبي فعلي، فهم لم يقدموا أية خدمة ذات بال للناس بمقدار ما كانوا متناغمين تماما مع الإملاءات الحكومية عليهم، ويجب تذكيرهم بأن الجزاء سواء كان سلبا أو إيجابا هو من جنس العمل، وعمل النواب لا يرقى لما يطالبون به من مكاسب
العدد 872 - الإثنين 24 يناير 2005م الموافق 13 ذي الحجة 1425هـ