من المشكلات التي أثارت جدلا واسعا قبل أسابيع مشكلة الوضع الجامعي، الذي انتهى بمشروع "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي قدمه أحد النواب بالبرلمان. وهو مشروع سيخلق مشكلات جديدة أكثر مما يحل من إشكالات، وخصوصا أننا نبدأ من حيث انتهى الآخرون في بعض الدول المجاورة، كأننا لا نرى ولا نسمع. والمشروع يقوم على فرضية "فساد المجتمع"، وتحلله الأخلاقي الذي لا رجعة فيه أبدا، وكأن هذه المساجد والجوامع والمآتم والجمعيات والمؤسسات الدينية المختلفة، وهذه الأعداد الهائلة من الحجاج والمعتمرين في مواسم الحج والعمرة لا تكفي لإثبات براءة ذمة هذا المجتمع المسلم العريق عند أصحاب هذه المشاريع.

إن مناقشة قضايا المجتمع المعاصر لا ينبغي أن تقوم على نظرة أحادية لا ترى من الصورة إلا جانبا صغيرا جدا، فنحن نعيش في مجتمع معقد، يتعرض لتيارات أكبر من أن تدافعها باليد الجرداء أو تحريم الاختلاط أو الهروب إلى الكهوف. المفكر والوزير البحريني السابق علي فخرو تحدث في محاضرته البليغة عن "تحول رأس المال في هذا العصر من الهيمنات الكلاسيكية إلى السيطرة الرمزية، ونجحت دكتاتورية الإعلام أن تأخذ مكان دكتاتورية الدولة والضمير... في مثل هذه الأجواء تصبح الحشمة عواطف عفا عليها الزمن - وبالتالي - تخلو الساحة لما هو غير عقلاني".

الشيخ علي سلمان، كان يطرح تأملات عن التغيرات الكاسحة في المجتمعات الإسلامية التي لم تعد قابلة للصمود، ولم يكن يلقي مجرد خطبة عيد الأضحى، حين قال إن القرن الماضي كان أكثر القرون انقلابا، وأن السنوات العشر الماضية كانت أشد العقود تغييرا، وتنبأ أن تكون السنوات العشر المقبلة هي الأخطر من حيث وتيرة التغيير، "فما يجري يمكن أن يعيد صوغ العالم أجمع من جديد، وعلينا أن نتفهم الأبعاد التي تتركها هذه الأمور ونتلمس طريق التعامل معها بجدية".

ويذهب في تحليل المشكلة الاجتماعية قائلا: "منذ قرنين كانت مسألة التعليم تغذي جانب الفكر والمعرفة، وأصبح المجتمع يتطور، ولم يكن بالإمكان الابتعاد عن التعليم، كما لم يعد من الممكن أن لا أعلم ابني أو ابنتي في الجامعة المختلطة، فالأسر بحاجة اليوم إلى إدراك طبيعة المجتمع الذي ستقذف فيه أبناءها، ولا حل إلا بالتقرب إلى أبنائكم وبناتكم، وأن تعايشوا هذه العملية وتعيشوا تحدياتها ومغرياتها، وتساهموا بما لديكم من التزام ووضوح رؤية في نيلهم التعليم من دون أن يتخلوا عن الدين والعادات الاجتماعية الايجابية، بعد أن أصبحت مرحلة التعليم الجامعي بالنسبة إلى كثير من الطلبة والطالبات، مرحلة انفصال عن الدين".

وتحدث عن جانب خر من الصورة الكبيرة: سوق العمل "الذي أصبح يستوعب النساء بنسبة 35 في المئة، وسيصبح عما قريب يستوعب 50 في المئة، هذا السوق الذي يقوم على الكذب والابتزاز والكسب الحرام، فرب العمل إذا استطاع ابتزاز العامل ابتزه، وهو أشد قسوة حين يحاول أن يسلب الدين، فهذا السوق الذي يبيع البضاعة أصبح يبيع الجسد والعقيدة، فماذا تنتظر من مثل هذه المؤسسات؟ بنت عمرها 24 عاما تتعرض للاغتصاب من أول يوم لها في الوظيفة في هذا السوق القبيح، فعلي أن أعرف هذا الجو إذا كنت سألقي بابنتي فيه. هذا هو التحدي أمامكم".

ثم تحدث عما تشكله وسائل الاتصال من تحديات غيرت طبيعة حياتنا، بما أتاحته من إمكانات تقنية: "فاليوم القنوات تبث 24 ساعة، وتدخل من أقاصي العالم بكل ثقافاتها ومادياتها إلى كل منزل وغرفة. وكل أطفالنا يمتلكون الهاتف النقال، بما يعني أنه يملك تلفزيونا متحركا. والانترنت الذي يثير مشكلات أخلاقية كبرى في الغرب، أصبح اليوم يدخل منازلنا، وليست المسألة غياب ثقة، ولكن ما يتركه على حياتنا شيء مهول".

وأضاف في معرض قراءته للقوانين التي تكاد تسير المجتمع المعاصر: "المجتمع يتغير، وعلينا ألا نشتري ببعض المال ما يهدم بيوتنا. طبيعة الحياة تدعو إلى مزيد من الحرية، حرية الرجل والمرأة، حرية سياقة السيارة مباحة في الإسلام، وعلينا أن نمنح بناتنا الحرية بحيث لا نخسرهن. الابن اليوم لا ينتظر سن الخامسة عشرة حتى ينفتح على المعارف، فعليك أن تبدأ بتحصينه، اعتمادا على القناعة الذاتية، وعلى العلاج المبكر كأفراد وكقوى مجتمعية. سوق العمل لا يمكن إلغاؤه، ولكن يمكن إصدار قوانين تحمي المرأة من ابتزاز مدير العمل، والحياة الجامعية لا يمكن إلغاؤها، ولكن يمكن خلق بيئة جامعية نظيفة".

نحن أمام قراءتين إذا للواقع المجتمعي، وما يعصف به من "تسونامي" عنيف، تحت عجلات العولمة الزاحفة التي لا ترحم: أجواء موبوءة، وسوق عمل من دون مشاعر أو قيم، والتشخيص هو أول العلاج لكيلا نتورط في مشروعات "منتزعة" من أجواء العصور الوسطى، تختزل العالم كله في اللحية والنقاب