"لا يجوز أن يسن الكونغرس أي قانون. .. يحد من حرية التعبير..."
من التعديل الأول للدستور الأميركي
يعتبر حق التعبير، وحق تحدي الآراء السياسية الرائجة، وحق انتقاد سياسات الحكومة من دون خوف من توجيه أي اتهام من الدولة، هي الفارق الأساسي بين البلد الحر والبلد الدكتاتوري. فمن بين جميع مجالات حقوق الناس، بقي حق التعبير عن الرأي والاتجاه حقا رائدا مركزيا وجوهريا في أي حركة ديمقراطية.
التعبير الحر هو القيمة الجوهرية للديمقراطية، والاختلاف على هذه القيمة يتجسد في محاولة الفهم لمدى تلك الآفاق من التعبير التي يحميها التشريع بالحرية، هل يحمي، مثلا، لغة الكراهية الموجهة إلى مجموعات إثنية أو دينية معينة؟ هل يحمي "الكلمات المحفزة للقتال" التي تحفز الناس مباشرة للعنف؟ الحرية مفهوم يتطور، وطالما ستواجه المجتمعات على مدى التاريخ أفكارا جديدة فإن الجدال العظيم بشأن مفهوم حرية التعبير سيستمر. وظهور الإنترنت هو الأحدث بين سلسلة التحديات الحديثة، بالنسبة إلى فهم ما تعنيه حماية حرية التعبير.
تظهر نظرية "المسئولية الاجتماعية"، تارة بوصفها واجبا مبررا، وبوصفها "حقا" تارة أخرى، لا يمكننا الاستهانة بما تحمله هذه النظرية من آفاق، ولا يمكننا جعلها مبررا مستمرا لكبت الحريات، تبقى المعادلة من أصعب المعادلات الإنسانية على مر التاريخ، ولو ان الإنسان أخرج منظورا او حلا لهذه المعادلة لما انتهت حضارات ولما قامت ثورات أو دول جديدة. إن فضاءات الحرية وحرية التعبير بلا مسئولية اجتماعية قد تحمل في طياتها رائحة انهيار للمجتمع، وكذلك هي حين تلعب بها السلطات الكونية قد تتحول من أداة دفاع الى أداة سيطرة وديكاتورية.
يشير الكاتب الأميركي "كريس جونز" الى أن حرية التعبير لم تتخذ دائما شكل الحق الشامل الذي نعرفه اليوم، وعندما كتب السير وليام بلاكستون كتابه الشهير، "شروحات حول قوانين إنجلترا"، في منتصف القرن الثامن عشر، عرف حرية التعبير بأنها "غياب التقييد المسبق". كان يقصد بذلك أنه لا يجوز ان تمنع الحكومة أحدا ما من قول أو نشر ما يعتقده، لكن متى تلفظ شخص ما بملاحظاته، يصبح عندئذ بالإمكان معاقبته إذا كان نوع الخطاب محظورا. لقد وضع الإنجليز، على غرار الإغريق القدماء، قيودا قانونية على ثلاثة أنواع من الخطاب: التحريض على الفتنة "انتقاد الحكومة"، الافتراء "انتقاد الأفراد"، والتجديف "انتقاد الدين"، وسموا كل نوع منها "مواد جنحية".
قيود حرية التعبير:
إن أهم قيد من القيود الثلاثة بالنسبة إلى الحريات السياسية هو التحريض، لأن النخب الحاكمة كانت ومازالت تعتقد أن أي انتقاد يوجه إلى الحكومة أو إلى الرسميين فيها، حتى ولو كان صحيحا، يخرب النظام العام بتقويضه الثقة بالحكومة. فإذا كان لا يحق للحكومة، بحسب بلاكستون، ان تمنع شخصا ما من انتقاد الحكومة، فإن بإمكانها معاقبته بعد أن يفعل ذلك.
يحاول كريس جونز ان يتتبع خيوط مسرح حرية التعبير في التجربة السياسية الأميركية، ويعود بها للإنجليز، فيسرد تاريخية الحمل للقانون الإنجليزي على أيدي المستوطنين الإنجليز، لكن سرعان ما ظهر تعارض بين النظريات والممارسة، وبين القانون كما هو مكتوب وبين القانون كما هو مطبق.
منذ الوقت الذي صدقت فيه الولايات على التعديل الأول سنة 1791 "لا يجوز أن يسن الكونغرس أي قانون... يحد من حرية التعبير أو الصحافة..."، وحتى الحرب العالمية الأولى، سن الكونغرس قانونا واحدا يحد من حرية التعبير، وهو قانون "التحريض على الفتنة"، سنة .1798 كان هذا التشريع أعد بشكل خاطئ وولد من شبه حرب مع فرنسا، وانتهى أجله بعد ثلاث سنوات من إقراره. ومع أن هذا القانون شجب على نطاق واسع وبالشكل المناسب، فانه كان أسلوبا دفاعيا عسكريا وسياسيا اكثر منه تشريعا داخليا.
يرى كريس جونز أن التعبير يجب ان يكون حرا، لكن حريته ليست مطلقة؛ فالحاجة الواضحة لمعاقبة إنسان يصرخ كلمة "قنبلة" في مسرح مزدحم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى متطلبات الحرب، تجعل من الضروري، في بعض الأوقات، الحد من حرية التعبير. ان معيار "الخطر الواضح والداهم" جرى استخدامه بطريقة أو بأخرى من قبل المحاكم التي تعمل في النظم الديمقراطية على الدوام.
ويصنف كريس جونز أستاذ الحقوق من جامعة هارفرد زكريا تشافي جونيور، بأنه أعظم الشخصيات الدولية التي دافعت عن حرية التعبير، إذ دافع طيلة حياته عن حق جميع الناس في قول ما يؤمنون به من دون خوف من انتقام الحكومات. فقد اقترح ما قد يبدو للكثير من الناس آنذاك، والآن، انه فكرة راديكالية تقول ان التعبير الحر يجب أن يظل حرا حتى في أوقات الحرب، وحتى عندما تكون المشاعر متأججة، لأن هذا هو الوقت الذي يحتاج فيه الناس إلى سماع حجج الجانبين، حتى لا يقتصر الخطاب العام على ما ترغب الحكومة في أن تقوله للناس.
يضع مشرع حرية التعبير الأول في الولايات المتحدة زكريا تشافي جونيور أطرا عامة لحرية التعبير، ويرى أنه لا يمكننا التغاضي عن حرية التعبير بالقول ان الوقت هو وقت حرب، ويشدد على ان الدستور يعطي الكونغرس سلطة صريحة لتعبئة الجيوش. ويمنعه بشدة من ان يتدخل للحد من حرية التعبير لأي سبب من الأسباب. بل ان الصدق في الحرب هو طريق الانتصار، وعليه، يجب أن يكون التعبير حرا في أوقات الحرب، إلا إذا كان مسئولا بوضوح عن التسبب في عرقلة مباشرة وخطيرة لإدارة الحرب.
ميدان سوق الأفكار:
توماس جفرسون كان إيمانه بالديمقراطية على حسن حكم الناس في أن يختاروا لأنفسهم ما يعتقدون أنه الشيء الصالح الذي ينبغي القيام به، وللجميع أن يحاولوا في أي عملية بناء سياسي ديمقراطي أن يبنوا ميدانا حرا أو سوقا مفتوحة للافكار، نظرية "ميدان سوق الأفكار" التي ترى ان الشعب - وليس الحكام - هم من تقع عليهم مسئولية اتخاذ القرار بالنسبة إلى القضايا الكبرى القائمة عبر مناقشات حرة تليها انتخابات حرة.
لابد أن نكون مؤمنين بأن الغاية النهائية للدولة هي جعل الناس أحرارا في تنمية قدراتهم، وأنه يجب أن تنتصر القوى التشاورية في حكومتها على الاعتباطية. علينا ان نروج إلى أن الحرية هي غاية ووسيلة، وأن الحرية هي سر السعادة وأن الشجاعة هي سر الحرية.
إن حرية التفكير كما تشاء والتحدث كما تفكر، وسائل لا غنى عنها لاكتشاف ونشر الحقيقة السياسية؛ وإنه من دون التعبير والاجتماع الحر، تكون المناقشات غير ذات جدوى؛ وإنه بوجود تلك الحرية، تحظى المناقشات عادة بالحماية اللازمة ضد انتشار العقائد الهدامة؛ وان أكبر تهديد للحرية هو الشعب الخامد؛ إن النقاش العام هو واجب سياسي. هو أشبه بالمخاطرة أن نتخذ خيار تثبيط همة الفكر والأمل والخيال، إن الخوف يولد الاضطهاد، والاضطهاد يولد الكراهية، والكراهية تهدد الحكومة المستقرة، والخيار السليم يكمن في فرص المناقشة الحرة للشكاوى المفترضة والعلاجات المقترحة.
إن الخوف من الأذى الشديد لا يمكنه أن يبرر وحده إلغاء حرية التعبير والتجمع. فقد خشي الناس الساحرات وأحرقوا النساء. ووظيفة التعبير تحرير الناس من قيود المخاوف غير المنطقية. فإلغاء حرية التعبير يستوجب أسسا منطقية للتخوف من حصول عواقب مشئومة إذا مورست حرية التعبير. ويجب أن تكون هناك خلفية منطقية للاعتقاد بأن الخطر المثير للخوف وشيك الحدوث، كما وجود أساس منطقي للاعتقاد بأن الأذى الذي يجب تجنبه هو خطر ماثل وممكن التحقق
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 872 - الإثنين 24 يناير 2005م الموافق 13 ذي الحجة 1425هـ