العدد 872 - الإثنين 24 يناير 2005م الموافق 13 ذي الحجة 1425هـ

تحية لجاك دريدا

باريس - بيير هنري كازامايو 

تحديث: 12 مايو 2017

توفي الفيلسوف جاك دريدا بمرض السرطان في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2004 عن عمر ناهز الـ 74 عاما. مثل مع آخرين من جيله صورة رمز للفكر الفرنسي. كاتب غزير، ترجمت أعماله إلى نحو عشرين لغة. تحتفظ به الذاكرة كمبتكر "للتفكيك". نحيي في هذا المقال مسيرته الاستثنائية.

"جعلتني الحوادث يهوديا فرنسيا من الجزائر". ولد العام 1930 في ضاحية الجزائر العاصمة وكان الفتى جاكي دريدا "شقيا بعض الشيء" مفضلا كرة القدم على المدرسة. سقط في امتحان الثانوية العامة مرة أولى، وظهرت عنده ميول أدبية. قرر التوجه نحو ميدان الفلسفة بعد دخوله دار المعلمين العليا العام .1952 شغر في الستينات مركز أستاذ فلسفة في ثانويات الأقاليم ثم أستاذ مساعد في جامعة السوربون. لوحظ العام 1976 على إثر نشر مؤلفات أساسية ثلاثة هي: "في علم القواعد"، "الكتابة والاختلاف" و"الصوت والظاهرة" وحصل بفضلها على مكانة خارج فرنسا. دعي للعمل في الولايات المتحدة وبهر بهيبته الجمهور الاميركي الذي أم محاضراته بأعداد كبيرة. التقى هناك بول دو مان، هيليس ميلر، جوفروا هارتمان وهارولد بلوم. هكذا بدأت في مدينة يال "مدرسة التفكيك"، وبدأ هو يجوب العالم وينشر المؤلفات. وفي حين كان يجسد في البلاد الأنجلوسكسونية دينامية "النظرية الفرنسية"، لم تمنحه الجامعة الفرنسية آنذاك شرف مسئولية عليا.

على رغم شهرته، تبين فكر جاك دريدا عويصا متطلبا وغامضا للبعض. تمحور بشكل أساسي حول مقولة: فكرة الكتابة. واستند على اعادة قراءة نقدية لمتافيزيقيا الغرب، وكشف التقدير الجذري للفظ على حساب المكتوب، ودعاه "التعبير الوسطي" الذي يمتد من أفلاطون وحتى هايدجر. اعتبر أن المحاولة المثالية في عزل "إرادة القول" عن "أثرها" المكتوب، أي مضمون الاحتمالات عن التعبير، وباختصار المضمون عن الشكل، تؤدي إلى الفشل. فأعار اهتماما للبرهنة على أن تعددية معاني الكلمات المكتوبة والالتباس في المعاني هما هاجس الفكر "الدائم والسابق"، واقترح العمل على "تفكيك" النصوص الفلسفية. يتمفصل "التفكيك" عنده على زمانين: من جهة، تبيان الالتباس الدلالي في الخطاب القائم على مفاهيم، ومن جهة أخرى، تحفيز هذا الالتباس بابتكار ألفاظ جديدة، ويقتضي "هدم" الفرضيات القائمة مسبقا و"بناء" شروط حضور فكر مفتوح غير جامد، في الوقت نفسه. هنا كمن عنده "الذوق الصارم للرقة وللمناقضة وللاحراج" ومثل سبب الملامة التي وجهت لدريدا، لأن حبه المفرط في الكتابة رافق ثراء اللغة.

تناولت أعمال جاك دريدا مجالات عدة مثل التحليل النفسي والألسنيات والرسم والدين. كما اهتم أيضا بالفلسفة الكلاسيكية وبالكتاب الحديثين، لاسيما في كتابه "قرعة حزن" الذي قارن فيه بين هيجل وجان جينيه، كما أحب جمع السيرة والمفهوم. في نقاشه لليهودية استعاد شكل "الاعتراف" في السيرة الذاتية معنونا كتابه بتذاكي "اعتراف دائري". برع دريدا في نثره في إدارة هذا النوع من الرصد الصدامي بين لفظين. يمثل مفهوم "الفروق" المهم الذي يسعى إلى التفكير بـ "انتشار" المعنى والدقة في هذه الممارسة. ليس فقط وجود الـ "واو" الواجب تهجيته شفاهيا، والمؤكد لأطروحة اللفظة الملغمة في الكتابة، انما ايضا استدعاء القارئ الموجه إليه والبعيد وكفيل الحوار. فـ "الفروق" هي توحيد بين "التأجيل" و"التميز"، وتوضيح عبر التلاعب في الاملاء، "للتيهان" في عملية المعنى. يقول دريدا: "أعمل دائما كما أكتب، أي بالاستطراد وباتجاه خطوات جانبية مع مراكمة الاضافات، والاستعارات والابتعاد نحو كتابات معتبرة قليلة الأهمية ونحو تراث غير كنسي، وأضع التفاصيل والملاحظات في أسفل الصفحة". تكمن مراهنته الفلسفية في هذا الوضع الحدي واللاتقريري، بين النص نفسه وهامشه، بين الأساس والعرضي، بين الهنا والهناك. وتشهد الجرأة في أسلوبه المتفاوت والمتعدد، على حساسية نادرة في عصر يفتقد الحساسية أحيانا.

كان جاك دريدا رجلا ملتزما بقضايا معاصريه. العام 1968 بدأ مع زملائه الأساتذة تحقيقا شاسعا بشأن التربية الذي أدى بعد أكثر من سنوات عشر إلى إنشاء مؤسسة متميزة هي "المدرسة الدولية للفلسفة". العام ،1981 اعتقل عدة أيام في تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية بسبب اقامته ندوة سرية مع طلاب منشقين. في العقد الأخير من عمره، أضحى البعد السياسي لالتزامه أكثر وضوحا في أعماله





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً