العدد 872 - الإثنين 24 يناير 2005م الموافق 13 ذي الحجة 1425هـ

الموهبة... وفر الطائر من يد المبدع

كيف تضيع الموهبة من بين يدي صاحبها، كم يبكي كثيرا من الناس على مواهبهم التي ماتت وكانت نبتة خضراء صغيرة فلم يتعاهدوها بالسقي والرعاية، كم تتحسر على موهوب تراه مبدعا فيما يقدمه ولكن موهبته تضمحل يوما بعد يوم بإهمال منه أو بإعانته للآخرين على تبديدها حتى تتصرم وتتلاشى شيئا فشيئا وتنتهي وكأن لم تكن موجودة أبدا.

الموهوب حين يجد نفسه يرتقي في سلم الإبداع هل له أن يتركها لتتلاطمها أمواج الاستهلاك، حتى تغرق ويخسر الناس مبدعا كان بإمكانه أن يقدم الكثير، إن آفة الإبداع تكمن في الاستهلاك القاتل وهو السم البطيء للموهبة اذ يترك الموهوب إبداعه رهين طلبات الآخرين الذين يريدون، ويريدون، ويريدون، من غير أن يسمحوا للمبدع بلحظة تأمل وتفكر أو لحظة استزادة وتثقف أو تثاقف وترو، من غير أن يسمحوا له حتى أن يبري دواته، فيظل حبيس إشاراتهم لا يعمل إلا من خلالها، فتراه وهذه حاله قد تبرمج ببرامجهم، ونسي موهبته وانحاز إلى الرؤى التي تتقاذفه وكأنه في بحر لجي عميق لا قرار له، ولا يستطيع النجاة منه، وتكون الموهبة هي الطوق الذي يلتف حول رقبته ويجره به الآخرون لخدمتهم، بينما بإمكانه أن يجعل من موهبته طوقا آخر لا لجره وإنما لنجاته من استغلال الآخرين إذا تبنى ذاته وأخلص لموهبته.

آلة طيعة

الموهوب حين يسلم نفسه لهذه الآفة آفة الاستهلاك فإنه ينسى موهبته ويذوب في مشروعات الآخرين ويتبنى رؤى غير رؤاه ويصبح مجرد آلة طيعة للخدمة أو ترسا بسيطا في آلاتهم، فيرونه سائرا في رؤاهم نفسها فيجعلونه مجرد مركب صغير يمتطونه للوصول إلى مآربهم، هكذا إذا لم تتبن موهبتك مشروعا فإن الآخرين سيضمونك إلى مشروعاتهم، هكذا إذا لم تبرمج نفسك وطاقتك لخدمة موهبتك فإن الآخرين سيبرمجونك ضمن مشروعاتهم وخططهم، وسيذهب كل سعيك هباء من بين يديك ويقدم في سبيل غير سبيلك الذي تريد، وليس لك أن تتفاجأ بعد أيام وسنين من الكدح والتعب على لا شيء سوى آثار لا تعتد بها ولا تستطيع أن تقدمها في قالب واحد فأما أن تكون شتاتا لا جامع له أو أنها ذهبت في المصب الذي أريد لها وليس لك الحق منها في شيء فهي ما عادت ملكك وإنما ملك لمن برمجك من أجلها ولمن وضعها جزءا من مشروعه.

وينجر الموهوب للاستهلاك بطريق آخر حين ينسى موهبته ويذوب في مشروعات الآخرين ولكن هذه المرة بشكل أكثر سلبية إذ يرونه يسير خارج إطار رؤاهم فيشغلونه بمعاركهم وينشغل هو بمنازعاتهم وتمنعاته من الانضواء في مشروعاتهم، مدعيا لنفسه التميز والأصالة والمحافظة على النقاء والطهارة، محافظا على موقعه "في محلك سر" رافضا أي مس يدنس موقعه مقاوما كل لبس يشوه الحقيقة المتخيلة التي لا تتألق إلا في ذهنه، فينشغل عن موهبته بردود الفعل التي وإن قدمت ما قدمت في الدفاع والمماحكة والحجاج فإنها تظل تمثل صدى لصوت غير صوته وموهبة غير موهبته وإبداعا غير إبداعه ومشروعا غير مشروعه، بل يسير كل ما يقدمه في سبيل تسويق مشروعات الآخرين، من خلال عملية التداول المفتعلة التي يختلقها وينشغل بها، وكأن لم يكن لديه مشروع يحتاج منه إلى تبني أو موهبة تحتاج إلى صقل وإبداع يحتاج إلى ممارسة مستمرة حتى يتمكن من أدواته ويضع اسمه في مصاف المبدعين الآخرين.

مؤسسات استهلاك

وليت شعري ما أكثر مواقع العمل والمؤسسات التي تستهلك المبدع في تروسها وتلوكه بين أسنانها فتعتصره حتى لا يتبقى فيه شيء من الموهبة، وكم هي المناسبات الرسمية والأهلية التي تستفز جهود المبدع لينطلق في رحابها فيتوه في صحاريها ويضيع ويضيع موهبته ويتلاشى من بين يديه ألقها ويذهب كل شيء ولا يلقى حتى نفسه.

مبدعون مبرمجون

وكم هم المبدعون الذين تمت برمجتهم بحسب المناسبات فلا يستطيع أحدهم أن يبدع إلا في إطار المناسبة، فتراه لا يجد جده إلا إذا اقتربت منه المناسبة قاب قوسين أو أدنى حينها فقط تلتمع لديه الأفكار وتنطلق فيه روح الحماسة الإبداعية، بينما المبدع الحقيقي من لا يحبس نفسه على المناسبة فينطلق ويصدح بموهبته في كل آن ويختبر قدراته في كل حين ويتبنى نفسه كموهوب إلى أن يصل إلى حد الاحتراف فينال قصب السبق فيما سخر نفسه من أجله.

لا للانقطاع

ليس المعنى الذي أردت أن أوحي به أن ينقطع الإنسان عن مجموعه البشري وأهله وناسه وزمانه ومكانه والممارسات التي لا يجد لها الجد إلا في الدفقة المناسباتية، ليس ما أردت أن ينقطع الإنسان عن كل ذلك لينضم في سلك نخبة تجترح القطيعة الاجتماعية والزمانية والمكانية أسلوبا للرقي والتقدم وتعتبر كل ما سواها وهدة وتخلفا ودنوا، وإنما أردت أن ينطلق المبدع في مشروعه ويتبنى موهبته، أن ينطلق من همه ويرتقي بمجموعه البشري فيعيش أحلامه وأحلامهم ويحلق بهم ومعهم ويجعل من المناسبات ومن المشروعات ومن الآخرين فرصا يجرب فيها موهبته ليستمكن إبداعه بشكل أكبر ويتقن أدواته ويمتلكها بمهارة وبقوة وحذق متميز فلا يستسلم للآفات الاستهلاكية القاسية القاتلة، وليجعل من كل كبوة فرصة جميلة للانطلاق والنجاح والإنجاز.

وليكن حماسه الأول والأخير ليس الآخرين ولا مشروعاتهم ولا المناسبات وإنما حماسه الأول والأخير هو الإنجاز والإنجاز حتى يتكامل مشروعه شيئا فشيئا وتكبر النبتة الصغيرة وتزداد اخضرارا يوما بعد يوما فيصبح الموهوب مبدعا متمكنا من أدواته ويضع اسمه علما بارزا في المجال الذي وهبه والإبداع الذي تميز فيه





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً