لم يعد العالم في الحاضر محكوما بدكتاتورية عسكرية أو حزبية ايديولوجية أو حتى اقتصادية بقدر ما هو محكوم بدكتاتورية الإعلام من خلال آلية الرمز الظاهرة والخفية التي من خلال اطروحاتها وايحاءاتها استطاعت أن تبرمج عقل وروح وعواطف واتجاهات الإنسان في كل مكان. لقد تحول رأس المال في عصرنا من الهيمنات الكلاسيكية العسكرية والسياسية والاقتصادية المعروفة إلى السيطرة الرمزية، ونجحت دكتاتورية وسائل الإعلام أن تأخذ مكان دكتاتورية الدولة وتحل محل الضمير. وهذه السلطة تمارس عبر طرق ملتوية كثيرة تنتهي بصناعة ثقافة استهلاكية تخدم الآلة الصناعية التكنولوجية وتخديرية حسية تبسيطية تساهم في تبرير علاقات الظلم في المجتمعات وفي ابعاد الاجيال الشابة عن الانغماس في الحياة العامة.
من هنا تأتي الأهمية الكبرى للعلاقات التأثيرية بين حقلي الإعلام والتربية. ذلك أن التربية، مثل غيرها من الحقول، ما عادت تستطيع ان تكون بمنآى عن السيل الجارف من الأفكار والنظرات والتحليلات والسلوكيات التي تنثرها وسائل الإعلام في كل لحظة وباستمرار على العالم كله. غير أن للوطن العربي خصوصية يجدر الانتباه لها. فإذا كان الإعلام في الدول المتقدمة يكون قوة دكتاتورية قائمة بذاتها في تلك المجتمعات وقادرة على مزاحمة كل أنواع الدكتاتوريات الأخرى بما فيها الدولة نفسها، فإن الوضع عندنا يختلف إلى حد كبير. ذلك أن الدولة العربية تستعمل هيبة وسلطة الإعلام العربي وقدراته الفائقة على نحت العقول والنفوس لتثبيت تسلطها ولصالح من تمثل من مختلف المصالح الفئوية الضيقة في المجتمع.
تحديات المستقبل
من الضروري رسم صورة تحديات المستقبل، باختصار شديد، من أجل ابراز الحاجة الملحة لتضافر جهود أهم حقلين من حقول التنمية البشرية، حقلي التربية والإعلام، للمساهمة في مواجهة تلك التحديات. بينما سيكون أي تنافر بين هذين الحقلين إضعافا مضاعفا لجهود تلك المواجهة الضرورية.
أولا: هناك تحديات مشتركة بين الوطن العربي وبقية العالم تتمثل في التلوث البيئي الذي لا يعرف الحدود الجغرافية أو البشرية، وفي مواجهة أمراض جديدة لم ترها البشرية قط مثل مرض الايدز أو جنون البقر، وفي نضوب مصادر المياه الضرورية للحياة وللمدنية، وفي اقتراب نضوب مصادر الطاقة البترولية، وفي ازدياد الآثار الجانبية السلبية الضارة لتقدم العلوم والتكنولوجيا الهائل السريع الخطى، وفي الأصولية الثقافية التي تبشر بنهاية التاريخ وبهيمنة ايديولوجية واحدة هي الايديولوجية الرأسمالية اليبرالية الغربية، وفي المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية لظاهرة العولمة، وفي السقوط المذهل للأخلاقيات والقيم كجزء من ظاهرة ما بعد الحداثة التي تجتاح المجتمعات الغربية خصوصا.
ثانيا: على رغم أن التحديات السالفة الذكر كافية لتجعل اثقال المستقبل العربي بالغة الكبر والتعقيد وستحتاج إلى تنمية بشرية واسعة ومتنوعة، فإن الوطن العربي المجزأ المتخلف المستهدف له تحدياته الخاصة به التي في رأيي تختزل في العناصر الستة للمشروع الحضاري النهضوي العربي. إنها عناصر الوحدة العربية والانتقال إلى الديمقراطية وبناء التنمية المستقلة وتثبيت العدالة الاجتماعية والخروج من التبعية إلى الاستقلال الوطني والقومي والتجدد الحضاري المتمثل أساسا في تجديد التراث العربي وفي الحداثة.
إن أمة تواجه هذا العدد الهائل من التحديات المستقبلية لا تملك خيار ترف السماح لأية تناقضات بين حقول التنمية فيها. فحقولها التنموية يجب ان تنمو متناغمة ومتناسقة مع بعضها بعضا وإلا فإن الجوانب السلبية في أي منها ستحيد الجوانب الايجابية في بقية الحقول الأخرى.
المشترك بين الإعلام والتربية
إذ كانت المؤسسة التربوية، وخصوصا على المستوى الجامعي، معنية بتوليد وإنتاج المعرفة، فإن الحقلين معنيان بنشرها وتحليلها ونقدها من أجل إدماجها في نسيج ثقافة المجتمع.
ومن أجل قيام كليهما بمسئولياتهما المعرفية فإن ذلك يتطلب حرية واسعة لجمع المعلومات والبحث والعرض والتعبير. ولا يمكن لاي منهما ان يتعامل مع المعرفة بابداع وفاعلية إذ كانت المعلومات والاحصاءات تعتبر اسرارا رسمية يخضع الافصاح عنها لامزجة المسئولين في الاجهزة الحكومية وإذا كان التعبير عما تعنيه تلك المعلومات خاضعا لقوانين جامدة استبدادية أو لأوامر إدارية صارمة أو محكومة بقدسيات مجتمعية ودينية متخيلة.
والواقع أن المجتمعات العربية تزخر بتلك المحددات والضوابط القانونية والإدارية التي تجعل كلا الحقلين في محنة تجاه علاقتهما بالمعرفة والثقافة. فحقل التربية وحقل الإعلام عندنا يعانيان، نتيجة لمثل هذه الضوابط، من النمطية والاجترار ومن إعادة انتاج ثقافة المجتمع عبر السنين ومهما تغيرت الأحوال. ويشعر العاملون في الحقلين بالإحباط وقلة الحيلة والضغوط العقلية والنفسية التي تولدها مشاعر الخوف من تخطي الخطوط الحمراء التي ترسمها القوى المتحكمة في المجتمع على مستوى الدولة وعلى مستوى المجتمع المدني على حد سواء. فالعلاقات بين الاقسام والدوائر وبين المسئولين والمرؤوسين تسلطية غير ديمقراطية واختيار العاملين في الحقلين يخضع لمتطلبات صارمة على رأسها الولاء للنظام السياسي والدفاع عن نهجه في الإدارة والحكم والقيم.
فالسلطات العربية معنية إلى حد الهوس بضبط افكار ومعتقدات الاطفال واليافعين في المدارس والجامعات بمقدار ضبط توجهات ومشاعر الرأي العام نفسها.
إن من المهم ابراز هذه الجوانب المشتركة التي تتحكم بمسار الحقلين لأنها أحد أسباب القصور العربي في كليهما، ولأنه من الصعب التصور بأن أحد الحقلين سيكون قادرا على مساعدة الآخر في ظل تسلط القوى المهيمنة نفسها في الدولة العربية على كل مضامين وآليات التربية والإعلام.
الإعلام في مواجهة التربية
على رغم من أن المؤسسات التربوية والإعلامية تتحكم فيها القوى نفسها فإن التناقض بينهما كان ولايزال ظاهرة تقلق المسئولين على الجانبين. فعبر العقود الماضية انطلقت أصوات في مختلف المؤسسات العربية من مثل المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة أو مكتب التربية لدول الخليج العربية تدعو إلى قيام تنسيق وتكامل بين وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية. عقدت الكثير من اللقاءات لشرح ما يريد التربويون من الإعلاميين وبالعكس من دون ان تتمخض تلك اللقاءات عن آليات تنفيذية تؤدي إلى قيام تنسيق حقيقي ودائم وتكاملي بين الحقلين. والنتيجة أننا مازلنا نعيش حال التصادم أو القطعية بين الخطابين الإعلامي والتربوي.
ولما كانت الوسائل الإعلامية والمعلوماتية والاتصالية تقوى بصورة متلاحقة وتتمظهر في أشكال تزداد جاذبية وقدرة على التأثير المباشر وغير المباشر على جميع شرائح المجتمع ما يسمح لها بفرض هيمنة شبه كلية على البيت واجواء الحياة العائلية فإن قضية المواجهة بين الحقلين ستزداد تعقيدا وحدة أكثر بكثير مما كان عليه الوضع منذ بضعة عقود من الزمن.
فأين تكمن التناقضات الكبرى وهل هناك إمكان في تخفيضها إلى الحدود الدنيا؟
1- هناك أولا الغاية الكبرى التي حاول الانسان عبر القرون التوجه نحوها والتفتيش عن الطرق الموصلة اليها ونعني بها غاية الوصول إلى الحقيقة، حقيقة الاشياء وظواهر الحياة والكون وكل النشاطات الانسانية. لقد كان التفتيش عن الحقيقة من خلال العقل والفكر والخيال في الدرجة الأولى. ولأنه كان كذلك فقد انبرت المؤسسة التربوية بإعداد الإنسان القادر على القيام بمهمات التحليل والنقد والتركيب والتجريب والابداع الخلاق من أجل تمكينه من ممارسة التفتيش عن الحقيقة والقدرة على التفريق بين الحقيقة المصطنعة أو المزيفة والحقيقة الاصلية. ولما كان الوصول إلى الحقيقة أمرا شاقا فقد كان من الضروري تعويد الإنسان على فضائل الصبر والتأني في الأحكام وأخذ الوقت الكافي للتأمل وعدم السماح للرغبات الحسية بالتداخل مع صرامة المتطلبات العقلية.
لكن في عالمنا اليوم، عالم العولمة، لا مكان لألعاب العقل والروح والوجدان الصافي. فعالمنا محكوم بدكتاتورية اللحظة الراهنة، وكل شيء يجب ان يحدث الآن وبسرعة متناهية، ذلك أن شعائر وعبادات العصر هي الاستعجال الدائم في كل شيء. وعبادة الاستعجال تؤدي إلى ممارسة ظاهرة المختصر: في الاخبار، في المناقشات الفكرية، في الإعلام، في الصورة. وهذا تمارسه خصوصا الوسائل الإعلامية السمعية والبصرية. والنتيجة هي الايغال في تبسيط القضايا المعقدة واختزالها على الدوام في صورة عناوين "ومنشتات".
والنتيجة ايضا تنمية صفات سلبية من أهمها عدم الصبر الذي تتطلبه عملية اقتناء المعرفة، وعدم ممارسة التأمل الضروري للدخول في اعماق اية حقيقة. فالتأمل لا يمكن أن يترعرع في احضان إعلام ينشد شد إنتباه المتلقي لكل ما يعرض ويصر على عدم اعطائه اية لحظة للراحة أو الاسترخاء من خلال تجديد دائم في العروض والمادة والكلمات والايحاءات لحوادث أكبر قدر من التأثير المباشر وغير المباشر لكل تجديد.
إنها عملية تصنيع لجمهور فاقد القدرة على ممارسة التفكير الهادئ الرصين. والغريب أنه لا الا ختزال ولا الاستعجال يمارس على اللقاءات السطحية البلدة مع المغنين والمطربين والمهرجين، بينما يمارس بصرامة متناهية مع أصحاب الفكر ورجال السياسة الجادين.
إن التلميذ يقضي يوميا في كثير من الاحايين امام التلفزيون وقتا اطول مما يقضيه في الصف الدراسي لن يمارس الاساليب التي تعلمه المدرسة من أجل الوصول إلى الحقيقة وإنما سيمارس ما تعلمه وسائل الإعلام السمعية والبصرية من أساليب مسطحة ومستعجلة. وهذا سيوصله إلى الحقيقة المزيفة أو المشوهة. وهو بالضبط ما يريده ملاك اجهزة رأس المال الرمزي. فالحقيقة المطلوب إقناع الناس بها هي حقيقة الرأسمالية المعولمة بكل مطالبها وتجلياتها من استهلام نهم لكل شيء مادي ومعنوي ومن الانغماس في اجواء المتعة الحسية البحتة.
2- سعت المدرسة عبر القرون لاقناع التلاميذ بالتماهي مع ابطال الإنسانية العظام ممن أغنوا الحياة الإنسانية بمخترعاتهم واكتشافاتهم وبطولاتهم وتضحياتهم. كان الهدف هو أن يرى التلميذ في مثل هؤلاء صورة انسانية يسعى لمحاكاتها. وكان كل ذلك يربط بحقول المعرفة من مثل التاريخ والآداب والعلوم الطبيعية لتربط بواقع الحياة وبالنتائج المحسومة لعطاء أولئك الأبطال.
أما ساحة الإعلام فانها خلقت ابطالا من نوع جديد يصلحون ليكونوا مداخل للثقافة الاستهلاكية التي تروج لها الآلة الصناعية - التكنولوجية - المالية المملوكة من قبل الشركات العالمية الكبرى العابرة للقارات. إنهم الابطال النجوم في عالمي الفن الجماهيري والرياضة الشعبية. ولما كان غالبية هؤلاء هم من مدمني العطور والماكياج والازياء الصارخة والسيارات الفارهة وغيرها من بضائع الترف المتجددة بصورة لا تنتهي، أي بالماكنة الانتاجية في مجتمعات اقتصاد السوق والتسابق المحموم، فإنه ليس بالعسير ان يرى الإنسان سبب جعل هؤلاء أبطال العصر الذين يجب ان يتماهى معهم شبابه وشاباته. كل ذلك يقدم في شكل برامج صاخبة تختلط فيها الكلمات بصخب الموسيقى أو بصخب مشاهدي المباريات الرياضية، مع التركيز الشديد على رمزي الجنس والنجومية.
في مثل هذه الأجواء تصبح الحشمة عواطف عفا عليها الزمن وتخلو الساحة لكل ما هو غير عقلاني فتتم عملية الاقناع لشراء البضائع الجديدة والارتباط المريض بالموضات والصرعات التي تصعد وتخبو بسرعة البرق. وطبعا فإن نوع التماهي الذي تريده المدرسة يتروى ويتلاشى في ذهن الطلاب إذ يصبح تماهيا بلا ارتباط بواقع التلميذ اليومي ولا بالأحاديث التي يتداولها مع أفراد شلله في المدرسة وخارجها.
وعند ذاك يكون ما يقوله معلم الصف محض هراء وما يقوله مذيع التلفزيون هو الحقيقة الناصعة.
3- تسعى المدرسة العربية، ولو بصورة غير مباشرة في كثير من الأحيان، لتثبيت فكرة المواطنة، بحقوقها ومسئولياتها وارتكازها على القانون والكرامة الإنسانية، في عقول ووجدان الطلبة. حتى في انظمة الحكم الاستبدادية أو الفئوية لايجرؤ أحد في المؤسسة التربوية على عرقلة هذه المحاولة وخصوصا في عصر المد الديمقراطي الذي تشهده الساحة العربية منذ بضع سنين.
لكن غالبية الوسائل الإعلامية العربية، خصوصا المكتوبة منها والبصرية، بوعي أو من دون وعي تثبت الولاء المشخصن لهذا الزعيم أو ذاك المسئول. فمهما يكن الخبر المتعلق به غير ذي شأن يبرز على الصفحات الأولى ويركز عليه في نشرات الأخبار.
وعندما يظهر في التلفزيون فإن تقبيل الانف أو الكتف أو اليد أو الركبة يظهر بتكرار ممل مهما كان عدد المقبلين. وعندما يمر الموكب في الشوارع فإن التركيز هو على المصفقين والراقصين بهستيريا المعتوهين. وعندما يصور مجلسه مع الناس ومع المسئولين الآخرين فإن التركيز يكون على انحناءة الظهر الخفيفة أو الرأس المطأطئ أو أية حركة جسمية تدل على الخضوع وعدم علو العين على الحاجب. وعندما يتخذ قرارا فإنه يذاع وينشر كمكرمة أو أمر أو توجيه ليرتكز القرار على مذاق الاخضاع. وليس لكل ذلك أي ارتباط باحترام الشخصيات العامة، ولكنه مرتبط أشد الارتباط بشخصنة السلطة والدولة واختزالها في هذا القائد أو ذاك المسئول. كما أنه لا يقتصر على الشخصيات السياسية بل يتعداه إلى الشخصيات الدينية أو القبلية أو العسكرية أو المالية وإن اختلفت الحركات الجسدية المعبرة عن الخضوع والسقوط المذهل للكرامة الإنسانية.
ومع أن المؤسسة التربوية تشتكي من تكرار الظاهرة نفسها بالنسبة إلى التلميذ أمام معلمه أو مدير المدرسة إلا أن المسافة شاسعة بين ظاهرة محصورة في مؤسسة وبين ظاهرة يسوق لها في المجتمع كله. وهي ظاهرة تجرح المبادئ الديمقراطية والقيم الاسلامية وبالتالي تؤدي إلى تحييد محاولة المؤسسة التربوية في اعداد المواطن "الصالح" كما تسميه.
4- إننا نعيش عصر التفجر المعرفي في حقول العلوم وتطبيقاتها. وتسعى المدرسة منذ المرحلة الابتدائية إلى تربية التلميذ ليصبح انسانا مسلحا بثقافتي العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية كما نادى بها منذ سنين طويلة العالم الانجليزي س. بي. سنو عندما أدرك أخطار اختلال توازن الثقافتين في الإنسان الحديث. كما أن المدرسة تدرك الحراك المتواصل في عالم العمل الذي يؤدي بعامل المستقبل إلى تغيير وطيفته عدة مرات. لكن المؤسسة العلمية، وهي لاهية بطبخة الجنس والنجوم، ومهووسة بالحركة الدائمة من الحقيقي إلى المتخيل ومن الجد إلى الهزل، تهمل حقول العلوم، وخصوصا الطبيعية، إهمالا محيرا. حتى عندما تعرض برامج علمية فانها برامج مترجمة لبيئات ومجتمعات مختلفة... ومن هنا الحديث المكرر عن حيوانات ونباتات وحشرات ليست موجودة في الطبيعة العربية. ومن هنا الحديث عن أمراض ليست في قائمة الأولويات في الحقل الصحي العربي. ذلك أنه في الوقت الذي يوجد المال لانتاج برامج فنية مسخفة وماجنة فإنه لا يوجد المال لانتاج برامج علمية تساهم في التنمية العلمية العربية وتدخل الإنسان العربي في عصر الثنائي: العلوم - التكنولوجيا.
وعليه فإن الشباب العربي يعرفون أدق التفاصيل عن الفنانين والرياضيين العرب ونشاطاتهم ولا يعرفون شيئا عن العلماء والبحاثة العرب الذين لا ترحب بهم أكثر وسائل الإعلام العربية.
ويزداد الأمر تفاقما عندما يركز الإعلام العربي على قضايا دينية هامشية وعلى قضايا غيبية لا تمت بصلة لعقلانية القرآن وصرامة نهجه وذلك على حساب العقلانية التي يمكن إعلاؤها من خلال الاهتمام بحقول العلوم المختلفة.
ومرة أخرى يجب التأكيد على أن المطلوب هو متحدثون علماء عرب يتكلمون بشأن علوم ترتبط بمجتمعات وبيئات العرب وليس برامج مترجمة لمتحدثين أجانب عن قضايا تبدو بعيدة عن واقع الإنسان العربي.
والشيء الموجع حقا هو أن باستطاعة الإعلام السمعي - البصري إحداث نقلات نوعية تسند البرامج المدرسية وتحبب الطالب العربي بعلوم العصر وخصوصا انه بطبعه لا يميل للعلوم بسبب غياب تأثيرها الذاتي المباشر في حاضر الأمة العربية.
5- ان الدرسة حاولت عبر قرون ان تغني مشاعر إنسانية الإنسان من خلال بناء حساسية عند التلميذ تجاه الظلم والجريمة والقسوة وغيرها من البشاعات التي يرتكبها بعض البشر. وكانت تعتمد في ذلك على القصص والشعر والدين وغيرها من المواد الدراسية المعبرة عن رفض تلك الممارسات المتوحشة.
لكن الإعلام، وهو يمارس التسابق في القدرة على التأثير المباشر الانبهاري الاني جعل لعبة العرض اليومي لمشاهد الموت العبثي أو الجنس المبتذل أو الجريمة المجنونة أمرا عاديا في حياة التلاميذ. ولا يهم على الإطلاق ان تدخل تلك المشاهد في نسق مفهوم مبرر ضمن سياق القصة أو الحدث التلفزيوني وإنما المهم ان تظهر على الشاشة لزيادة الانفعال لما يقدم.
وبينما ردد ديكارت قولته المشهورة: "أنا افكر فإذن أنا موجود"، أصبح شعار العصر: "أنا أنفعل بتلك المشاهد المقدمة فإذن أنا موجود"؟.
إن الإعلام يتعامل مع المشاهد لا كفرد قادر على الاستقلالية من خلال ممارسته لحريته وعقله وانما كزبون في مطعم أو متجر لديه رغبات جامحة وطلبات غير عقلانية وتوجهات غير قيمية تحتاج أن تشبع، وما على الوسيلة الإعلامية إلا أن تشبعها الآن من دون الالتفات إلى الاضرار على المدى الطويل.
وعندما تصبح تلك المشاهد، وخصوصا مشاهد التلذذ المدمن بممارسة النظرات المتلصصة لمشاهد الغرام الفاحش، مشاهد يومية فإنها تصبح شيئا فشيئا مادة استهلاكية ككل البضائع الاخرى يمكن الاستمتاع بها من دون موانع وبلا توقف أو انقطاع طيلة النهار والليل.
إن الابتذال للمشاعر الإنسانية سيجعل الإنسان انسانا آليا عديم الاحساس، ولن تستطيع المدرسة بعد ذلك رفع مستوى انسانيته. وبعد فليس من الضروري سرد كل الأمثلة للتناقضات بين خطاب التربية والخطاب الإعلامي، وهي كثيرة وصارخة. ولقد تم التركيز على الجوانب السلبية من هذه العلاقة لتبيان أهمية التنسيق بين الحقلين من خلال آلية دائمة. ذلك أن التأثيرات الايجابية المساندة لرسالة التربية ونشاطاتها لبعض الوسائل الإعلامية أصبحت معروفة. فالكمبيوتر والانترنت، على سبيل المثال، يلعبان دورا علميا وثقافيا ومعرفيا بارزا، ومع مرور الوقت سيكونان من أهم الوسائل التربوية في جمع المعلومات والتفاعل التعلمي والتعلم الذاتي وتعليم الكبار. كما أن وسيلة التلفزيون أثبتت مكانة مهمة في نظام الجامعات المفتوحة والتعلم عن بعد والتعلم المستمر مدى الحياة ومكافحة الأمية وغيرها. لكن القضية ليست قضية توافر الوسائل الإعلامية والمعلوماتيه وإنما هي قضية محتوى خطاب تلك الوسائل. فالخطاب يحتاج أن يعدل محتوياته وأهدافه، ويحتاج أن يتحرر من محاولات جعله وسيلة لنشر وتثبيت أسوأ ما في حضارة العصر، وللتلاعب بأسوأ ما في الانسان من غرائز.
التربية والإعلام في أرض العرب يجب ان يتعايشا من أجل إخراج هذه الأمة من ورطها التاريخية الكثيرة
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 871 - الأحد 23 يناير 2005م الموافق 12 ذي الحجة 1425هـ